جعفر عباس

وشفنا البلاط وأكلنا الرغيف

[JUSTIFY]
وشفنا البلاط وأكلنا الرغيف

عندما صرت تلميذا في مدرسة البرقيق المتوسطة، كان ذلك يعني اجتياز النيل إلى الشاطئ الشرقي من جزيرتنا «بدين» في مركب يعاني من الاستسقاء (في كل رحلة بالمركب كان دائما هناك رجل مهمته سد الثقوب بين الألواح الخشبية بالخرق البالية منعا لامتلاء المركب بالماء وغرقها، فمعظم المراكب كانت تعمل بعد انتهاء عمرها الافتراضي، ويا ما غرق العشرات من أهل بلدتنا بالجملة على فترات متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا، فقد كانت تلك المراكب المكعكعة تحمل البشر والبقر ولازم وحتما ما بين سبعة إلى عشرة حمير، والحمار في التحليل الأخير «حمار»، فقد يفكر فجأة في القفز خارج المركب أو يتحرش بأتان (أنثى الحمار) على عينك يا تجار لأن الحمير بطبعها قليلة الحياء، وبالتالي فإن البشر الذين يتحرشون بالنساء في الأسواق والشوارع بكل صفاقة ووقاحة، بالضرورة يحملون جينات «الحمورية»، ويا ما تسببت الحمير في انقلاب أكثر من مركب، ويكون ذلك أحيانا فقط بضرب قاع المركب المكعكع بالحوافر حتى يحدث فيها ثقبا يستعصي على الرتق والترقيع.
وبعد عبور النهر كنا نسير بالأقدام ونحن نحمل على رؤوسنا حقائب مصنوعة من الصفيح (التنك)، وبها ملابسنا القليلة والكثير من التمر وبسكويت الشاي الذي نسميه قرقوش ويسميه أهل الخليج «بقصم»، وكانت محطة الانطلاق كرمة النزل وبعدها نجتاز قرية وادي خليل ثم نمر بكرمة البلد ومنها إلى المدرسة في البرقيق. تاريخيا فإن كل المنطقة الممتدة من جنوب البرقيق حتى شمال أبو فاطمة هي كرمة التاريخية عاصمة الدولة النوبية ومركز حضارتها العريقة، وبلدتي «جزيرة بدين» كانت جزءا من كرمة ولكن وقبل قرون ليست بعيده حفر النيل مجرى في ناحيتها الشرقية وفصلها عن كرمة، وصارت هناك «كرمتان»: الأصلية منهما تحمل اسم «البلد» والثانية مركز تجاري كان هناك خط سكة حديد ينتهي عنده قادما من أقصى نقطة في شمال السودان (حلفا) في فترة من فترات الحكم البريطاني، ولأن الناس كانوا «ينزلون ويركبون» فيها وإليها فقد صارت تسمى كرمة النزل، بضم النون، ولهذا فإن سكانها «لحم راس» من مختلف أنحاء السودان قدموا إليها أصلا لممارسة التجارة، وكان أشهر التجار فيها من ذوي البشرة الفاتحة الذين نسميهم في شمال السودان الفلاليح (وهو جمع تكسير من ابتكارنا لـ «فلاح») وكانوا في معظمهم من الهاربين من مصر بعد مذبحة القلعة في عهد محمد علي باشا واستقر معظمهم في مدينتي أرقو ودنقلا، وأسهموا في التنوير والتعليم والنشاط الاقتصادي والخيري بعد أن صاروا جزءا أصيلا من نسيج المجتمع النوبي لدرجة أن كثيرين منهم يتحدثون النوبية باللهجة الدنقلاوية بطلاقة.
كانت مدرسة البرقيق المتوسطة «أبهة» وكان أول ما يلفت الانتباه إليها أنها مبنية بالطوب الأحمر وليس مثل بيوتنا ذات اللون الواحد (كلها كانت مبنية بالطين الخام)، وكان هناك البلاط، وتدخل أي غرفة للدراسة أو السكن فتجد أرضيتها مستوية وصلبة، وهكذا سمعنا بالأسمنت، وبما أننا كنا نقيم في مبنى المدرسة (الداخلية) فقد شعرنا بـ «العظمة» لأن هناك قاعة طعام أنيقة بها طاولات بيضاء وهكذا وللمرة الأولى تسنى لنا أن نتناول وجبة ونحن نجلس على كراسي، وارتاحت أرجلنا من التنميل الذي كانت تعاني منه كلما جلسنا أرضا لتناول الطعام ونحن نضغط بأجسامنا على إحدى الرجلين أو كلتيهما، ولكن الأهم من كل ذلك أننا ارتحنا من أكل القراصة وكسرة الذرة طوال سنوات الدراسة لأنهم كانوا يقدمون لنا الرغيف في كل الوجبات، وقبلها كنا نعتبر الرغيف نوعا من «التحلية»، ولا يتسنى لنا تذوقه إلا إذا ذهبنا إلى كرمة النزل في يوم سوقها الأسبوعي (الأحد).

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]