نسيت!
قبيل عودتي المسائية للصحيفة، للوقوف على متابعة آخر التطورات والأخبار، ومتابعة عمل الطاقم الفني في معمل الكمبيوتر، كنت مطمئناً وأشعر بأن كل شيء على ما يرام، خاصة في الصفحات النهارية التي نتابعها ونعدها منذ الفترة الصباحية، ولم يدر بخلدي أنني نسيت شيئاً، إلا بعد أن تلقيت محادثة هاتفية من مدير التحرير، ومن السكرتارية يسألونني فيها عن «العمود» والقصد طبعاً هذه الزاوية أو المقال اليومي، الذي أصطلح على تسميته بـ «العمود» منذ أن بدأت الصحافة الورقية، حيث كانت الصفحة تقسم إلى ثمانية أعمدة طولية، تكون مهمة المخرج الصحفي أن يقص من أفراخ الورق المتضمن للمادة المطبوعة بما يملأ به ذلك العمود. والطباعة كانت تتم عن طريق ماكينات ملحق بها ما يمكن أن نسميه بالمخازن الصغيرة، تُصبُّ فيها مادة الرصاص المصهور في فرن قريب جداً من صالة «الجمع»، أي جمع ما هو مكتوب باليد عن طريق تلك الماكينات «الانترتايب» و«اللينوتايب» من خلال لوحة مفاتيح تشبه لوحات مفاتيح الآلات الكاتبة القديمة، لكنها مثبتة بطريقة أكثر قوة ودقة، ليعقب ذلك عملية إخراج ما تمت كتابته «سطراً سطراً» على عرض العمود الصحفي الذي كان يقاس بمقياس أقل من السنتيمتر يسمى «الكور»، ولكن في أشكال صلبة، تأتي أحرفها مقروءة بعد أن يتم تحبيرها، وتمرر عليها أفراخ الورق الأبيض على مرحلتين، الأولى «بروفة» لاكتشاف مواطن الخلل لتصحيحها، والثانية لإجازتها نهائياً وتحويلها إلى المكتب الفني لتبدأ مرحلة تصميم الصفحات بـ «قص» تلك الأفرخ على حسب المساحات الموجودة أو وفق الشكل الفني المطلوب والثابت لصفحة ما، وهي ما يحفظ شخصية الصحيفة.
ما فات هو خروج كبير وطويل عن النص، إذ أن تلك المحادثة أطارت ما كان في ذهني وحّملتني هماً كبيراً حول ما يمكن أن أكتب فيه، وقد ظننت أنني فعلت ذلك، ولكن ماذا نفعل مع «النسيان» وهو ما يقول البشر اسم مشتق منه «الإنسان» وإنه آفة العلم، وآفة العقل إضافة إلى ما هو أكبر وأخطر من ذلك إذ قال الأولون إن آفة الكذب النسيان!
سألت صديقي الراحل «محمود محمد الأمين» ذات يوم، ونحن أمام باب منزله ـ رحمه الله ـ سؤالاً لم يسأله له أحد، ولا أحسب أن أحداً كان يتجرأ على طرحه عليه، وكان قد بلغ الخمسين أو تجاوزها دون زواج، فسألته جاداً: «يا محمود عايز أسألك إنت ليه ما اتزوجت لحدت الآن؟»
اغتاظ الرجل ـ رحمه الله ـ وخلل أسنانه بقشة كانت في يده، وقال لي بصوت بارد: «نسيت».. ولم أصدِّق طبعاً.
وأدعو بما دعا به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للتخلص من النسيان، وهو: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً»، وكذلك «ربي زدني علماً» وكذا «رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي» آمين.
بعد ومسافة – آخر لحظة
[EMAIL]annashir@akhirlahza.sd[/EMAIL]