حوارات ولقاءات

القرضاوي: من الوسطية اتخاذ الشدة والقوة مع الأعداء

شدد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أن الوسطية لا تعني، كما يظن البعض، التساهل والقبول بالحد الأدني، مؤكدًا أن اتخاذ القوة والشدة في مقابل الأعداء يعد من الوسطية، وأن العبرة بوضع العنف في موضعه واللين في موضعه، كما فعل الرسول حين عفا عن أهل مكة وعاقب يهود بني قريظة.
وأوضح القرضاوي أن من خصائص التيار الوسطي أنه يشدد في الأصول وييسر في الفروع، كما أنه يجمع بين ثوابت الشرع ومتغيرات الواقع، لافتًا إلى أن التيار الوسطي هو تيار عالمي إنساني أخلاقي ينفتح على تجارب العالم، وينتقي منها ما يتوافق معنا، كما هو الحال فيما توصل إليه العالم من تجارب في مواجهة الديكتاتوريين.
وأشار القرضاوي، في حلقة الأمس من برنامج »فقه الحياة« الذي يستضيف العلامة القرضاوي طوال شهر رمضان على قناة »أنا« الفضائية (تردد 12226 أفقي نايل سات) ويقدمه أكرم كساب، إلى أن اختياره لمنهج الوسطية نبع من كونه المنهج الأقرب لحقيقة الإسلام، إضافة إلى أن طبيعته الشخصية هي أقرب للوسط، كما أن معظم من تتلمذ على يديهم أو تأثر بهم من العلماء هم من أصحاب المنهج الوسطي.
واعتبر القرضاوي أن أخذ الناس للمنهج الوسطي هو مهمة العلماء الربانيين، مشيرًا إلى أنهم مطالبون بأن يوضحوا للناس طبيعة هذا المنهج، وأن يفندوا الشبهات التي تثار حوله، ويظهروا للناس الفوائد التي يجرها على الإنسان والمجتمع.
—-
** لا تذكر الوسطية في عصرنا هذا إلا ويذكر معها القرضاوي، ولا يذكر القرضاوي إلا ومعه الوسطية، فما مفهوم الوسطية؟
بسم الله الرحمن الرحيم.. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا، وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا، ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد..
فالوسطية مصدر صناعي كما نقول في العربية، نسبة إلى الوسط، فالوسطية منسوبة إلى الوسط، والوسط حسيًّا هو الشيء الذي يكون بين طرفين، والنقطة التي في المركز تسمى الوسط، واعتاد الناس من قديم أن يقولوا: »خير الأمور الوسط«، فلو أن شخصًا يميل إلى اليمين وآخر يجنح إلى اليسار، فالوسط دائمًا هو المحبب، وهو المحمي، حيث تحميه الأطراف المختلفة، والله ـ سبحانه وتعالى ـ وصف الأمة فقال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).
فالأمة الوسط من أوصاف الأمة الإسلامية، فهي أمة ربانية، الله هو الذي صنعها (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ) فذلك يدل على ربانية الأمة وربانية مصدرها وأساسها، فلم تنشأ لوحدها إنما أنشأها الله، وهي خير أمة أخرجت للناس (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) من الذي أخرجها؟ الله هو الذي أخرجها، وهي أمة واحدة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) فمن أوصافها الوَحدة ومن أوصافها الوسطية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وإن كان للعلماء آراء في تفسير الآية، لكن الرأي الذي اختاره أنا إنها الوسطية التي تجمع بين المتقابلات، فالأشياء التي يظن الناس أنها لا تجتمع تجمعها هذه الأمة، مثل الروحية والمادية، المثالية والواقعية، العقل والقلب، نور الفطرة ونور الوحي، الدنيا والآخرة.
كما أنها بعيدة عن الأطراف المتجافية، وتقف دائمًا في الوسط، بين الغلو والتسيب من ناحية، ويدل على هذا قوله تعالى (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ)، فمعناها لا طغيان في الميزان ولا إخسار في الميزان، وهذا الاعتدال في كفتى الميزان هو ما نقصده بالوسطية.
** هل يشترط فقط في الوسطية أن تكون وسطًا بين طرفين؟
نعم، فالوسطية هي أصل بين طرفين مذمومين، فحتى الصدق الإسلام يقول إذا كان الصدق سيؤدي إلى قتل إنسان فيمكن أن تكذب، فمثلاً لو جاء ظالم يسألك عن شخص هل تقول له هو بالداخل وتسلمه للقتل؟ لا ومن أجل ذلك أجاز الإسلام الكذب في الحرب، فالحرب خدعة، وأيضا أجاز الكذب لإصلاح ذات البين، وجاء في الحديث: »ليس بكذاب من أصلح بين اثنين، فقال خيرًا« ، وكذب المرأة على زوجها أيضا أجازه الإسلام، كما جاء في صحيح مسلم عن أم كلثوم، وهكذا فإن الكذب قد يكون واجبًا إذا كان من أجل إنقاذ فرد أو إنقاذ جماعة، وحتى التوحيد فإنه يعد طرفًا بين مذمومين، بين الذين ينكرون الألوهية إطلاقًا »الملاحدة« وبين الذين يعددون الآلهة، ويقولون بإلهين اثنين (لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أو يقولون بالتثليث، أو يعبدون آلافًا من الأوثان.
** وماذا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: »إذا سألتم الله فسألوه الفردوس الأعلى« وهل يكفي أن يكون الإنسان في المنطقة الوسط بين المسلمين أم أنه مطالب بالعلو والارتفاع؟
هذا من الوسطية، فهي لا تعني أن ترضى بالدون، فمن الوسطية إذا كانت عندك طاقة للعلو أن تطلب العلو دائمًا، وأن تطلب الأحسن، والقرآن يطالبنا بالتي أحسن (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، (جَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، (لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
وليس من الوسطية أن تترك الخير، وتقول: العلو ليس مطلوبًا، فالأعلى مطلوب في كل شيء، (اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم) (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فهذا لا ينافي الوسطية، ولا يخطر ببال أحد أن معنى الوسطية أنك تترك الشيء الأعلى حتى تظل في الوسط، لا بالعكس.
** إذن لابد في الوسطية من وجود الخيرية والأفضلية، والأحسن والأجود؟
طبعًا، هذا من المنهج الوسط.

لماذا الوسطية؟
** ذكرنا في البداية ارتباطكم بالوسطية في كل شيء، فما الذي جعلكم تختارون هذا المنهج؟
أولاً منهج الوسطية هو المنهج المعبر عن الإسلام الحقيقي، فلست مخترعًا لهذا المنهج، فهو الذي يسميه القرآن (الصراط المستقيم) بمعنى الذي ليس مائلاً إلى اليمين ولا إلى اليسار (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) والمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه أو الذين لم يعرفوا الحق، فكلاهما لم يعرف الطريق القويم، الذي اعتبره القرآن طريق الذين أنعم الله عليهم، وهناك آية فسرت المقصود بمن هم »الذين أنعم الله عليهم« (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً).
فهذا هو الصراط المستقيم، وهو طريق الأمة الوسط، فهو منهج متوازن ومعتدل، لا يغلو مع الغالين، ولا يجفو مع الجافين، وكما قال بعض السلف: هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه.
كما أن الإسلام هو منهج وسط في عقائده، وفي عباداته، وفي قيمه الأخلاقية، وفي تشريعاته وأنظمته، وفي كل شيء هو يقف الموقف الوسط، والموقف الوسط لا يعني أنه يبحث عن طرفين ويقف في الوسط، وإنما عندما نبحث في تعاليم الإسلام نجدها وسطًا بين طرفين، وهذا هو منهجنا، فنحن لا نرى طرفين ونقف في وسطهما، لكن المنهج الصحيح نجده دائمًا وسطًا بين طرفين.
وهذا المنهج هو المعبر عن حقيقة الإسلام، الذي ينهى عن الغلو، ويجعل الغلو هو سبب إهلاك الأمة »إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلك الغلو في الدين«، وهناك حديث ابن مسعود »هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون«، والقرآن يقول: (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ).
كما ينهي هذا المنهج أيضًا عن التفريط في أمر الدين، وفي حدود الله وفي حقوق الناس، ويطلب إحلال الحلال وتحريم الحرام، وأداء الفرائض.
** هل من أسباب أخرى؟
السبب الثاني لاتباع منهج الوسطية هو أنه الأوفق لطبيعتي، فطبيعتي هو طبيعة وسط، حيث لا أغلو مع الغالين، ولا أقصر مع المقصرين، أو أتسيب مع المتسيبين، وهذه أشياء أشبه بالفطرة، ولذا أجد نفسي دائمًا في الفريق الوسط.
الأمر الثالث هو أن كثيرًا من الناس الذي تتلمذت عليهم وتأثرت بهم هم أقرب إلى منهج الوسط، مثل الإمام حسن البنا، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد يوسف موسى، والأستاذ بهي الخولي، فهؤلاء الناس، وربما لم أذكر بعضهم، أقرب إلى المنهج الوسطي، وقد حماني الله من التأثر بالغلاة، فهناك أناس غلاة ولهم معجبون، وأنا لم أعجب بأحد منهم.

الأقدمون والوسطية
** هل من العلماء الأقدمين من كتب في الوسطية وإن كان طبعًا ليس بنفس المصطلح؟
لا، لم يكتب، ولكن مثلاً ابن تيمية يقول: المسلمون أو أهل الإسلام وسط في الأمم، أي بين اليهود والنصارى، فاليهود يسرفون في التحريم، والنصارى يسرفون في التحليل، والأمة الإسلامية وسط بين هؤلاء وهؤلاء.
وأهل السنة وسط في الفرق، يقصد وسط بين المعتزلة الذين يقولون إن الإنسان يخلق أفعال نفسه مستقلاً، والجبرية الذين يقولون إن الإنسان كريشة في مهب الريح يحركها القدر كيف يشاء، ولا كسب ولا إرادة له في العمل، كما أن الإمام الغزالي له أقوال يخرج منها بقضية التوسط هذه، وأنا أخذت من الغزالي قضية الطغيان والإخسار في الميزان، وكذلك ابن القيم له في كتبه »الإعلام« و«إغاثة اللهفان« و«المدارج« كلام وسط قوي جدًّا، نقلته في بعض ما كتبت، وبعضه نقلته ولم أضعه في كتاب.
وقد نقلت عن الشاطبي في الفتوى أنه ينبغي للمفتي أن يقف موقف الوسط بين أهل الانحلال وبين المتشددين، وأنه يجب أن يحمل الناس على المنهج الوسط، وفي علمائنا المعاصرين أيضًا وجدت بعضهم من قال هذا، فالشيخ المدني ـ رحمه الله ـ له رسالة من قديم سماها (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) والشيخ شلتوت تكلم عن الوسطية في سورة الفاتحة عند شرحه لقوله تعالى (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ)، فأوضح أنه صراط مستقيم في العبادة، وصراط مستقيم في المعاملة، وصراط مستقيم في الدعوة، إلى آخر ذلك.
وتطرق الأستاذ سيد قطب لذلك في كتابه »في ظلال القرآن« وهو يشرح قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) موضحًا أنها الأمة الوسط في الزمان، وفي المكان، وهي وسط في كل شيء، كما أنه في كتابه »خصائص التصور الإسلامي« تحدث عنها باعتبارها خصيصة أساسية، وسماها التوازن. وحتى بعض المفكرين المدنيين، أو الوضعيين، تحدثوا عن الوسطية هذه، وتوفيق الحكم له كتاب سماه »التعادلية« معتبرًا أن التعادل والتوازن قائم في الكون كله، حتى النفس نقول: شهيق وزفير، وهناك ليل ونهار، وضوء وظلمة، فالكون قائم على الاعتدال والتوازن في كل الأشياء والظواهر.
** هناك من يغالي في قضية النبوة، أو الأنبياء، فبعضهم يرتفع بالأنبياء إلى درجة الألوهية، وبعضهم يتطاول على الأنبياء، كيف يكون الوسط؟
الوسط أن نعتقد أن الأنبياء بشر اصطفاهم الله من أفضل خلقه، فهم أحسنهم عقلاً، وأنقاهم خلقًا، وكلفهم بأن يبلغوا عباد الله ماذا يريد الله منهم، حتى لا يترك الإنسان سدى، وحتى يعلموا أن هناك خالقًا، وأن هذا الخالق يطلب منهم أشياء هي في صالحهم، فهؤلاء الرسل مبشرون ومنذرون، (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
وهناك من ارتفع بالأنبياء فألهوهم، أي اعتبروهم آلهة، وهناك من كذبوهم ومن رجموهم، ومن قتلوهم، حتى وصف الله بني إسرائيل (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُـكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)، (وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فموقف الإسلام وسط بين هؤلاء وهؤلاء.

الوسطية والمقاومة
** ماذا عن وسطية العبادة في الإسلام؟
هناك من لا يعبدون الله، أو لا يكادون يعبدون الله، وهناك من ألزموا الناس بعبادات تعتبر أصارًا وأغلالاً مثل الرهبانية التي ابتدعها من ابتدعها، لكن لا رهبانية في الإسلام، وإنما عبادات يستطيع الإنسان أن يؤديها بيسر وسهولة، وهي محاطة بالرخص والتيسيرات من كل جانب، وهي تربط الإنسان بربه، حتى إنه يكون على موعد مع الله في اليوم خمس مرات، وأنا ذكرت في بعض ما ذكرت أن أحد الإنجليز أسلم في أوائل القرن العشرين وألف كتابًا سماه »إيقاظ الغرب للإسلام« وذكر فيه أن مما دفعه إلى الإسلام، وزين لديه الدخول فيه أنه لم يجد دينًا يربط الإنسان بربه مثل الإسلام، ويقول: نحن في المسيحية يوم في الأسبوع نذهب إلى الكنيسة، لكن المسلم خمس مرات يقف بين يدي الله، من أذان الفجر قبل أن يستيقظ الناس حتى بعد العشاء عندما يأوى الناس إلى بيوتهم، وطوال ذلك وهم موصولون بالله سبحانه وتعالى.
** أنتم من دعاة الوسطية، لكن تنادون بمقاتلة العدو ومقاومة المحتل، فأين الوسطية هنا؟
للأسف بعض الناس يظن الوسطية هي التساهل، والقبول بالحد الأدنى، ولذا فمن المهم جدًّا تحديد المفاهيم، فمثلاً بعض الناس يفهم التيسير بمعنى أننا نسهل على الناس في كل شيء حتى في الحرام والفرض، وهذا ليس هو التيسير، وكما أشرنا فيما يتعلق بالجهاد فهناك فئتان من الناس، فئة تريد إماتة الجهاد، وتقول: لا جهاد في الأمة، ونحن في عصر السلام ولسنا نحتاج إلى إعداد قوة، وكأننا نريد تسليم الأمة إلى أعدائها.
وهناك آخرون يريدون أن يحاربوا العالم كله، ابتداءً من حكام بلدهم إلى باقي العالم، حتى ولو سالمونا، ولو مدوا إلينا أيديهم، وهم بذلك يخالفون قول الله تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)، وقوله تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) فوقعنا بين طرفي الإفراط والتفريط في قضية الجهاد.
وليس معنى الوسطية أن نستسلم لأعدائنا، لكن الوسط هو اتخاذ القوة والشدة في مقابل الأعداء، والوسطية أن تضع العنف في موضعه واللين في موضعه، وتصالح من يمد إليك يده بالصلح، وتقاتل من يأخذ أرضك، أو يغتصب دارك، وكما قال المتنبى:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قاتل بعض الناس وصالح بعضهم، قاتل بني قريظة لغدرهم به في أشد الأوقات حرجًا؛ لأنهم انضموا إلى من أغار على المدينة، وكانوا يريدون استئصال المسلمين من أصولهم ومن جذورهم، رغم الاتفاقية الملزمة لهم، ورغم أنه عفا عنهم قبل ذلك، وفي وقت آخر قال لأهل مكة »اذهبوا فأنتم الطلقاء« فهل هو في كلا الموقفين ترك الوسطية؟ لا، فموقفه هنا وسط وموقفه هنا وسط؛ لأن كل فئة يجب أن تعامل بما تستحقه.

معالم الوسطية
** هناك تيار اسميتموه »تيار الوسطية« فما معالم هذا التيار؟

هذا التيار له معالم كثيرة منها: أنه يشدد في الأصول، وييسر في الفروع، فمنهج الوسطية لا يتبنى التيسير بصفة عامة، ولكن يفرق بين الفروع والأصول، ففي الأصول يتمسك بها ويقاتل من أجلها؛ لأنها هي التي تمسك الأمة وتحميها من أن تذوب وتتحلل إلى أمم، ولذلك في الاجتهاد قلنا إن الاجتهاد لابد أن يكون من أهله وفي محله، ومعنى محله أي في منطقة الظنيات، وهي المنطقة التي تحتمل إعمال العقول، وتعدد الاجتهادات، لكن هناك منطقة مقفلة لا ينبغي أن يدخلها أحد نسميها منطقة »القطعيات«، فالقطعيات في العقيدة والعبادة والمعاملة والسلوك، منطقة محرمة، ومنطقة الفرائض الأساسية هذه لا ينبغي أن يدخلها أحد؛ لأنها تمثل الثوابت، والتيار الوسطي يتبنى هذا الأمر.
وفي المقابل فهناك جماعة يحرمون الاجتهاد نهائيًا، ويقولون: الاجتهاد انتهى، ونحن في عصر التقليد، والأئمة كفونا عن كل شيء، ونحن نرفض هذا التقليد الأعمى، كما نرفض فتح باب الاجتهاد لكل من هب ودب، فهذا هو المنطق الوسط بين المغالين في التقليد والمغالين في التجديد.
ومن خصائص التيار الوسطي أيضا أنه يوازن بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، ويقف موقفًا وسطًا من المستجدات، فبعض الناس يقول أنتم ضد كل جديد، ونحن لسنا ضد كل جديد، لكننا نرحب بكل جديد نافع ونستفيد من كل قديم صالح، وهذا هو موقفنا، فنحن نأخذ من الحضارة الغربية أفضل ما فيها، مثل نظم الإدارة ونظم الحفظ على الصحة، ونستفيد منه ونضمه إلى منظومتنا، فيصبح جزءًا منها، ونضيف إليه ونعدل فيه ونحذف منه بما يتوافق معنا.
فمثلاً نظام الانتخابات هذا نظام غربي، لكن له أصول وجذور في الإسلام، فالرسول قال: ارجعوا وقولوا لي عن نقبائكم، أي أنه لا يستطيع أن يتكلم مع الجميع مرة واحدة، وإنما يتكلم مع مندوبين عنهم. وفكرة الانتخاب هي أننا لا نستطيع أن نجمع الناس كلهم، فبدلاً من ذلك نرشح فردًا من كل منطقة ليمثلها، وهو ما يسمى عندنا »أهل الحل والعقد«.
وفي المجتمعات البسيطة غير المركبة كان »أهل الحل والعقد« معروفين، فشيخ القبيلة هو رئيسهم الأدبي وأعلم الناس بهم، وإنما مجتمع مثل مصر وبها ثمانون مليون نسمة كيف تعرف أهل الحل والعقد، أو في إندونيسيا مائتان وخمسون مليون نسمة؟ وجدنا أنهم قسموا المناطق إلى دوائر، وكل دائرة يترشح فيها أكثر من واحد، ونختار أفضلهم، وكيف نختار الأفضل؟ الأغلبية هي التي تختار، وهذا ما نسميه رأي الجمهور، والرسول قال لأبى بكر وعمر: لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما، لأنه سيصبح اثنان أمام واحد، وقال أيضًا: عليكم بالسواد الأعظم.
فالتيار الوسطي ليس تيارًا منغلقًا، إنما يستفيد مما في العصر من تجارب، ولذلك نأخذ أفضل ما في الديمقراطية، فالعالم في مكافحته للديكتاتوريين والمستبدين والمتآلهين في الأرض وصل إلى تجارب، وهذه التجارب ملك البشرية جميعًا، ونحن المسلمين مطالبون بأن نأخذ أفضل ما فيها، لا نأخذها كما هي، فيمكن أن نضع عليها بعض القيود، فمثلاً نقول إن الشخص السكير لا أهلية له، والشخص الذي يجاهر بالكبائر كذلك فقد الأهلية، وأيضًا يمكن أن نضع فيها شروطًا لمن ينتخب ومن لا ينتخب. فهذه كلها من مميزات التيار الوسطي، فهو تيار عالمي، إنساني، أخلاقي، مفتوح، على تجارب العالم.

الطريق للوسطية
** كيف نأخذ بأيدي البعيدين عن هذا التيار، حتى يسيروا مع الركب، خصوصًا أنه المنهج الذي جاءت به آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟
هذه مهمة العلماء الربانيين الوسطيين، مهمتهم أن يقدموا هذا التيار بما يحببه إلى الناس، وبما يعرف الناس بفضائله بحيث يقتنعون به، وأن يبحث عن الشبهات التي تجعل الناس يعرضون عن هذا التيار، ويحاول أن يرد عليها، ويبين ما في هذا التيار من فضائل، ومن فوائد للفرد، وللأسرة، وللمجتمع، وللإنسانية بصفة عامة.
ونحن نقول إن هذا التيار معبر عن الإسلام، فالإسلام جاء رحمة للناس (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وجاء لخير البشرية، وكل خير موجود في هذا الدين، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر إلا بالخير، ولم ينه إلا عن شر، فإذا قصرنا في إفهام الناس هذا، فالمسئولية علينا نحن وليس على هذا المنهج ولا على هذا التيار.
** ماذا لو أن هؤلاء العلماء الربانيين يمنعنون من إيصال كلمة الحق إلى الناس؟
من أراد شيئًا وصل إليه، ومن سار على الدرب وصل، والله ما وجدنا الطريق أغلق علينا في يوم من الأيام، فيغلق طريق في مكان ويفتح طريق في مكان آخر، والإسلام كالشمس لو غابت عن بلد تطلع في بلد آخر، وهذا ما رأيناه في التاريخ الإسلامي كله، فالإسلام غاب عن الأندلس ليظهر في البلقان، حيث ظهرت الأمة الجديدة، أمة العثمانيين، وأقاموا الخلافة الإسلامية، وطرقوا باب فيينا أربع مرات، فليس هناك مجال للتعلل بهذه الأشياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى سيهئ لهذا الدين دائمًا من يقوم به، ومن يدعو إليه حتى تقوم الحجة وتسقط التعللات كلها.