د.عبد الوهاب الأفندي

سورنة العراق


[JUSTIFY]
سورنة العراق

(1)
اضطررت أمس الأول للتدخل، وهو أمر نادراً ما أفعله، عبر تويتر للتعليق على مداخلة للواء في الجيش البريطاني قدم تحليلاً على راديو 4 في الـ«بي بي سي» حول الوضع في العراق اختتم فيه القول بأن الديمقراطية لا تصلح للعرب، وإنما يصلحهم حكم دكتاتوري قوي. رددت بجملة واحدة كما تسمح تويتر: يبدي المتدخل جهلاً مؤسفاً بأن الكارثة الحالية سببها تحديداً وجود أنظمة دكتاتورية مدعومة خارجياً مثل نظامي المالكي والأسد.

(2)
إنها حقاً مأساة أن نشهد سياسياً مثل نوري المالكي، كان قد بنى تاريخه السياسي على محاربة الدكتاتورية في العراق، ينهي حياته السياسية بتكرار ممارسة دكتاتورية أسوأ، وفي تحالف مع البعث السوري ذي السجل الذي يخجل صدام. صحيح أن المالكي كان حتى وهو يدعي محاربة الدكتاتورية، يعيش ويعمل في كنف الدكتاتورية السورية والدكتاتورية الإيرانية، وما يزال متحالفاً مع نظامي الطغيان هناك ضد شعوبهما. وهو ما يقدح في أي مزاعم ديمقراطية لمثله. ولكن كان المرتجى أن يكون تعلم شيئاً من مآلات الطغاة، وهو الذي تولى شنق صدام.

(3)
هناك رد قديم على من يزعم أن الشعوب لا يمكن أن تحكم إلا بالقمع، تقدم به الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه على من أوصى به. فقد كتب إليه عامله علي خراسان الجراح بن عبد الله يستأذنه في استخدام القمع مع أهل خراسان لأنهم «قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط». فجاء رد عمر حاسماً صادقاً: «أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت. بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم والسلام».
واليوم نسمع المالكي، بعد أن فشل في بسط الحق والعدل، يستأذن البرلمان في استخدام «السيف والسوط» (إعلان حالة الطوارئ)، كأنه لم يتعلم ولا يتعلم.

(4)
لا يحتاج المرء أن يكون من المنجمين وقراء الطالع ليتنبأ بمصير أمثال نظام المالكي، وقبله أنظمة الأسد والقذافي ونظام مبارك-السيسي. ولكن حتى من توقع لهذه الأنظمة سوء الخاتمة صعق بالسرعة التي انهارت بها مؤسساتها القمعية. فقد مر زمان لم يكن أحد يتخيل فيه مجرد خروج مظاهرة في ليبيا القذافي أو سوريا الأسدين. ولكن المدهش أن المتظاهرين في بنغازي هجموا على معسكرات الجيش وهم عزل، ففر الجنود تاركين أسلحتهم كما فعل جنود المالكي في الموصل وما بعد الموصل.
نفس الشيء وقع في سوريا التي وقع ستون بالمائة منها في يد المعارضة في وجود جيش كان يزعم أنه يهدد إسرائيل، ولكن جنوده أدمنوا الفرار حتى أصبحت تدافع عنهم ميليشيات لبنانية-عراقية!

(5)
المؤسف في كل هذا أن كل من المالكي والأسد كان يمكن أن يستمر في حكم بلاده بدون كثير مشاكل لو أنه حكم العقل، وأعطى مواطنيه بعض حقوقهم، ولم يختر الطغيان والتجبر.
ولكن صغار الرجال لا يستطيعون الوقوف إلا في صف الأقزام، ولا يطيقون مقام الكبار من أمثال مانديلا وعمر بن عبدالعزيز ممن لم يحتاجوا إلى تصغير الآخرين حتى يكبروا.

(6)
بدأ الكثيرون يتحدثون عن «انهيار» الدولة العراقية. وحقيقة ان الانهيار لم يبدأ بالنسبة لكثير من العراقيين بدخول المتشددين إلى الموصل وبقية مدن العراق، وإنما عند دخول داعش الأخرى، أي جنود المالكي، إلى نفس تلك المدن والاعتداء على المعتصمين السلميين. وكما هو الحال عند إخوانهم في سوريا، أثبت هؤلاء الجنود أنهم أسود على المسالمين، نعام إذا واجهتهم جماعة ضعيفة التسليح. وهكذا الأنظمة الاستبدادية وأنصارها: أصوات عالية، وتجبر على الضعفاء، ثم فرار إذا سقط صاروخ أمريكي أو إسرائيلي، أو حتى لو وصلت حفنة من المسلحين.

(7)
«سورنة» العراق أيضاً بدأت عندما «استأسد» المالكي و «تصدم»، وأصبح يتصرف كحاكم بأمره.
وستكتمل الصورة كما هو متوقع عندما يبدأ تهديم المدن على رؤوس أهلها، وتدمير ما بقي من العراق وتشريد سكانه. ثم يأتي تحول النظام وجيشه إلى مجرد ميليشيا، واكتمال سيناريو الدولة الفاشلة على طريقة الصومال وسيراليون.

(8)
ليس هناك فشل أكبر من أن نشهد دولة مثل العراق، هي بحكم الموارد الطبيعية والبشرية من أغنى دول العالم، يتلقى سكانها المعونات والإغاثة من جهات أجنبية، ويعيش مئات الآلاف من مواطنيها التشرد والعوز والحاجة. ولكن رئيس الوزراء المالكي لا يدعو إلى نفرة لإنقاذ مواطنيه ومد يد العون لهم، وإنما خرج علينا بفرمان حرب يدعو المواطنين لمحاربة بعضهم بعضاً، ويعد بتوجيه كل الموارد للحرب وشراء الأسلحة. وليس هناك سقوط أخلاقي وسياسي شر من مثل هذا السقوط. ولكن: « ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً».
[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]