جعفر عباس

أفلتنا من «يوم القيامة»

[JUSTIFY]
أفلتنا من «يوم القيامة»

لدينا في شمال السودان النوبي ثلاثة أنواع رئيسية من التمور هي أكندينا وجعلها العرب «قنديلة» و«إبتي» ويسميها غيرنا البركاوي، ثم إبتي مودة وهو أرقى الأنواع الثلاثة، ومودة في اسم هذا الصنف جاءت من كلمة «موضة» لأن هذا النوع من التمور لم يكن معروفا لدينا واستجلبه البعض من «الخارج»، والخارج في قاموس النوبيين هو أي مدينة أو قرية أو دولة تقع خارج منطقتهم، يعني حتى السودان كان بالنسبة لجيل آبائي وأجدادي يعتبر من «بلاد بره»، فلما جاء ذلك التمر الذي ينتمي أصلا إلى عائلة الـ«إبتّي» الذي هو البركاوي في السودان الناطق بالعربية، ولكنه يمثل سلالة جديدة منها أضافوا إليه كلمة «موضة»، ولأن حرف الضاد يسبب للحنجرة النوبية التهاب البروستات صارت الكلمة «مودة»، واكتشفنا في منطقة البرقيق حيث مدرستنا المتوسطة نوعا من أطيب أنواع التمور سمعنا الناس يسمونه «المُشرك» نعم بضم الميم وتسكين الشين وكسر الراء، تماما كما تقول إن أبا جهل كان «مشرك»، وبعد سنوات من مغادرة تلك المدرسة عرفت إن الاسم الأصلي لذلك التمر البديع هو «مشرقي»، ولأن النوبيين يردون للعرب الصاع صاعين (عجمي فالعب به) فقد وضعوا قاعدة تقول: عربي فالعب به.
أما الحدث الذي جعلنا ندرك أن جزءا كبيرا من القرن العشرين فاتنا (وكنا قبلها لا نعرف عن القرن سوى أنه نتوء عظمي يوجد في رؤوس الخراف والتيوس والأبقار)، فقد كتبت عنه كثيرا، وهو عندما كنا في حجرات الدراسة، ورأينا طائرا عملاقا يهدر فوق سقف المدرسة حتى اهتزت جدرانها، وهاصت المسألة، فقد استنتجنا جميعا دون أن نتبادل أي كلمة أن إسرافيل عليه السلام بدأ نفخ الصور، وأن عزرائيل شخصيا أتى ليقبض أرواحنا بالجملة بهدم المدرسة على رؤوسنا، وتخيل عويل 160 تلميذا (كان الحد الأقصى لعدد التلاميذ في الصف الدراسي 40 وكان بالمدرسة صفوف من الأول إلى الرابع): انطلقت بعض الألسن بالقرآن وبعضها بالدعاء ولكن معظم الصرخات كانت: وو يو ( يا يمه) ويبيوو ويبيوو (يا ويلنا)، وصرنا نجري في كل الاتجاهات، ثم نفاجأ بذلك الطائر الضخم يحلق فوق رؤوسنا فتخور قوانا ونعجز حتى عن السير فنجلس نقرأ الفاتحة على أرواحنا، وبعضنا ممن كان يتمتع بلياقة بدنية عالية هرب من المدرسة وصولا إلى نهر النيل وعبروا سباحة إلى جزيرة آرتقاشة، على أمل أن يوم القيامة سيقتصر على البرقيق فقط، وسرعان ما شملت عدوى الخوف أصحاب المزارع والمسافرين على الطرقات، بل وعموم بلدة «كرمة البلد»، فصار عدد الباكين والراكضين بالآلاف المؤلفة، دون أن يدري أحد أين طريق النجاة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا تستطيع يو (الأم) أن تفعل فيه شيئا لأنها بدورها في حيص بيض.
وفجأة اختفى الطائر الوحشي، فصرنا نتلفت في حذر لأننا وضعنا احتمال أنه غير التكتيك وقرر أن يهجم علينا «كتامي» دون إصدار صوت مزعج، ثم انتبهنا إلى أن هناك جمعا غفيرا من الناس يتحرك صوب الميدان الواقع الى الشمال من المدرسة فتبعناهم بخطى بطيئة، وفجأة رأينا طائرا غريب الشكل، كانت أجنحته فوق رأسه وليس على جانبيه، وبما أنه لم يكن يصدر صوتا، ورأينا بعض المدرسين يقفون بالقرب منه تشجعنا أكثر واقتربنا ووجدنا رجلين من ذوي البشرة البيضاء يتكلمان الانجليزية مع المدرسين لبعض الوقت ثم دخلوا في جوف الطائر، فإذا بأجنحته تدور كالإعصار وانطلقنا من جديد: ويبيوو.. يا يو.. يا يمة.. ومنا من جرى حتى قريته التي تبعد عشرين كيلومترا من المدرسة ولجأ إلى بيت أهله وأصيب بالحمى والهستيريا لعدة أيام.
كان ذلك أول هليكوبتر نراه في حياتنا وكان يضم فريق المساحين الذين كانوا يريدون تحديد موقع يصلح لتشييد مستشفى.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]