بناديها !!!
*ونحن ـ أنا وابن خالي سيف الدولة ـ نصعد الزقاق الذي يفصل بين بيت العمدة ومنزليّ صديق علي محمود وعثمان محمود تطرق آذاننا كلمات الأغنية الشهيرة:
*” يا حارسنا و فارسنا يا جيشنا و مدارسنا”..
* ” كنّا زمن نفتش ليك جيتنا الليلة كايسنا “..
*فقد كانت هي أغنية الموسم في ذيّاك الزمان الذي كانت تخطو فيه (مايو) أولى خطوات تمكّنها..
*ونخطو فيه نحن أولى خطوات مراهقتنا….
*أو قد يكون العكس هو الصحيح ….
*فبعض الأنظمة السياسية لها مراحل (مراهقة!!) – كذلك – قد تطول، وقد تقصر، وقد تستغرق عمرها كله..
*وخطوات مشوارنا ذاك كانت تقودنا (صعوداً) – آنذاك – إلى بيت آل الدوش..
*فالذين رأوا البلدة الصخرية تلك – بشمالنا النوبي – يعرفون معنى أن تصعد..
*أو معنى أن تهبط ….
* فالصعود يعني أن ترهقك الجاذبية وأنت تتجه نحو قمة المرتفع الصخري وقد أوشكت على الانكفاء..
*والهبوط يعني أن (تجرجرك) الجاذبية نحو شاطئ النيل وقد أوشكت على الاستلقاء..
*وكلمات الأغنية تزداد ضجيجاً حين نحاذي منزل جاد كريم: “حبابك ما غريب الدار، وماك لحقنا الودار”..
*ونسمة شاردة من ناحية النيل تحمل إلى خياشيمنا نكهة (جبنة) اشتهرت بإجادتها مسكة زوجة خالنا عثمان..
*وإذ (صعدت) بالنكهة هذه نسمة النيل الشاردة، فإنّ القهوة نفسها سوف (تهبط) في اتجاه النهر حيث الجالسون تحت أشجار (القيف) الشهيرة في تلكم اللحظات من أصيل كل يوم..
*” حبابكم ما غريب الدار”….
* يصعقنا صوت نسوي حاد بالكلمات هذه في تزامن مقصود مع مقطع الأغنية الشهيرة الذي كان ينطلق من المذياع في تلكم اللحظات: “حبابك ما غريب الدار”..
*إنّه صوت سيّدة إبنة أول من امتلك آلة فونوغراف – أي (الحاكي) – في المنطقة بأسرها ..
*وللسبب هذا ، ربما ، حظيت بملكتيّ الشعر والغناء – سيدة هذه – وكذلك شقيقها مزمل..
*أما شقيقهما بشرى – الكادر المايوي- فقد كان خبر خطبته إحدى جميلات البلدة تكاد تُحدث به أرواح الميتين التي يقول كبارنا أنها تجوب الطرقات ليلاً إلى مطلع الفجر ..
*وإذ تبرز من داخل منزل جاد كريم سيدة صديق – في تلكم الأثناء – فإنّ الذاكرة تنكفئ سريعاً نحو ماضٍ قريب صارت فيه عروساً لخالنا محمد محمود وهانم بنت جاه النبي تفرض نفسها (ست الهوانم) بلطفها وظرفها ورقيها طوال أيام العرس ..
*أما الذين هم في أعمارنا فقد كانوا يتنافسون على لفت نظر من رأوا أنها ست الحسن والجمال بلطفٍ وظرفٍ ( مصطنعيَن!!) ..
* وأحد أقراننا هؤلاء – في مفارقة غريبة – ما زال متعلقاً قلبه بـ(ست الحسن) تلك إلى يومنا هذا وهو يناجيها من على البعد بكلمات رائعة الدوش ( بناديها !!) وقد جعلها عاطفيةً رغم ملمحها السياسي ..
* والدوش صاحب (الملامح) هذه – للعلم – هو بخلاف الدوش جد سيدة صديق الذي سلفت الإشارة إليه ..
*ولكن وردي الذي غنى للملامح (اليسارية) المذكورة هو وردي نفسه الذي غنى للملامح(المايوية) حسبما رآها شاعرنا محجوب شريف آنذاك ..
* “جيتنا وفيك (ملامحنا!!)، عاد يا مايو ميّزنا”….
* و صخب الأغنية يكاد يصم الآذان؛ وفي الرأس تصطخب ذكرى تزيح تلك التي أهاجها ظهور سيدة المفاجئ من وراء الباب بصوتها المصلصل..
*ذكرى يوم يطالبنا فيه مدير مدرستنا بالإصطفاف للتوجه إلى حيث يُحشر الناس ضحى لملاقاة قائد (الثورة) جعفر نميري..
*وينسرب من بين الصفوف كاتب هذه السطور لينطلق مسرعاً نحو بيته عوضاً عن مكان (الحشر) ..
*والفعل ذاك كان تشكلاً غريزياً مبكراً للوعي السياسي تجاه نمط من أنماط الحكم..
* ثم يصبح مدير مدرستنا ذاك نصيراً للثورة بدرجة (قيادي) …
*ويضحى كاتب هذه السطور نصيراً لشكل آخر من أشكال (الثورة!!)..
* الثورة الشعبية (النهارية) ، وليست الثورة الإنقلابية ( الليلية) ..
*وتنتهي الأغنية – أخيراً- بالذي بدأت به : ( يا حارسنا وفارسنا ، يا جيشنا ومدارسنا ) ..
* تنتهي مع إنتهاء خطانا عند دار آل الدوش …
*وتنتهي – كذلك – ذكرى اللحظات تلك من ذياك الزمان …
*ولكن الذي يأبى أن ينتهي هو (الأمل!!) الذي جسدته كلمات الدوش الآخر التي تغنى بها وردي ..
*وسوف يظل يردد عشاق الأمل هذا ( بناديها) وإن طال الإنتظار !!!!!
بالمنطق – صلاح الدين عووضة
صحيفة الصيحة