جعفر عباس

أساتذتنا كانوا «أساتذة»

[JUSTIFY]
أساتذتنا كانوا «أساتذة»

كانت أسماء الفصول الدراسية تنم عن انفتاح على التراث الإنساني، فبينما كانت الداخليات في مدرسة وادي سيدنا الثانوية تحمل أسماء أبطال سودانيين ومسلمين، كانت حجرات الدراسة تحمل أسماء شخصيات أثرت الحضارة الإنسانية مثل غاندي وسقراط والمهدي وباستير (مكتشف طرق التعقيم بالباكتيريا «البسترة») ونيوتن (نظرية الجاذبية) وفاراداي (مايكل فاراداي صاحب أهم الاكتشاف في حقل الكهرباء والمجالات الكهرومغنطيسية) وليوناردو (رسام عصر النهضة وصاحب لوحة الموناليزا تلك المرأة العجالية التي يقال إنها كانت من أجمل جميلات عصرها ولو عملت رجيم ونقصت نحو عشرين كيلو ربما كانت ستكون جميلة إلى حد ما.. وقد نبهت مرارا إلى أن الموناليزا عينها «زايغة» فلو غيرت مكان وقوفك أمام اللوحة عشرين مرة ستكتشف أنها تنظر إليك أينما وقفت، وهنا تكمن براعة اللوحة).. ودعك من مباني المدرسة الفخمة وميادينها التي لا تضاهيها ميادين أفخم استاداتنا الحالية حيث تتعرض أنديتنا الكروية للمرمطة كلما واجهت فريقا أجنبيا، ودعك من أنه كان بالمدرسة ناد للزوارق الشراعية الصغيرة غير القابلة للغرق لأن هيلكها كان معبأ بغاز يجعلها تطفو حتى وهو مقلوبة، وتعال انظر إلى نوعية أساتذتنا، وسأكتفي بأسماء بعضهم لتأكيد أن معلم ذلك الزمان كان صلب العود الأكاديمي والمهني: إسماعيل الأزهري أول رئيس وزراء للسودان المستقل كان يدرس فيها الرياضيات، ودرسنا التاريخ على يد بشير كوكو الذي ألف كتبا في تاريخ السودان الحديث صارت مقررة في الجامعات، وكان هناك محمد سعيد القدّال الذي صار أستاذا جامعيا وصاحب مؤلفات تمتاز بدقة الرصد وحسن التحليل، وحتى أمين مكتبة المدرسة (قاسم نور) يحمل اليوم لقب عميد علم المكتبات في السودان بدرجة بروفيسور، ومن الأجانب، الفلسطيني قسطنطين ثيودوري الذي كان يدرس الرياضيات ثم صار من مؤسسي البرنامج الكندي لعلوم الذرة، وكان قسطنطين قد درسنا الرياضيات في السنة الأولى وبما أن الإنجليزية كانت لغة التدريس، فقد كانت معظم مصطلحات علم الهندسة غريبة علينا، وذات يوم كان يشرح لنا مسألة عن أشخاص يجرون حول دائرة محيطها كذا وكذا، ولما أحس بأننا لا نفهم ما يقوله خاطبنا: هيدا السيركمفرانس (المحيط) والزلمات عم بركضوا هون، فقلنا له: بلاش لغة عبرية يا أستاذ وخلينا في الإنجليزي، وهناك عثمان فضل وعز الدين عمر وإبراهيم أرباب وجاد كريم كلهم صاروا إلى درجة «البرفيسور» في مختلف الجامعات، وكان لدينا مدرس بريطاني اسمه مستر كروفتس، ولأن النفوس كانت طيبة فقد كان مسؤولا عن التدريب العسكري. لم يقل أحد: هذا خواجة من فلول الاستعمار فكيف نسمح له بتدريب عيالنا عسكريا، وكان كروفتس شديد الانضباط فجعل الكثيرين منا يعشقون العسكرية، وكان التدريب العسكري إجباريا مرتين أسبوعيا خلال السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الثانوية، ويقتصر على الطوابير والضبط والربط وحمل السلاح، وفي الإجازة التي تسبق الانتقال إلى السنة النهائية كان يقام معسكر ضخم يضم طلاب عدة مدارس ثانوية ويتم فيها الانتقال إلى مرحلة ضرب النار بإشراف جنود وضباط محترفين من الجيش.. كروفتس هذا صار أستاذا في جامعة ليدز بعد مغادرة وادي سيدنا، وفتح أبواب شعبة اللغة الإنجليزية في تلك الجامعة للمئات من المدرسين السودانيين لنيل الماجستير.
وكان تدريس اللغة الإنجليزية في كل المدارس السودانية وقفا على البريطانيين، ولكنك كنت تجد هنا وهناك سودانيين خواجات يجيدون تلك اللغة أفضل من الذين ولدوا ناطقين بها وأذكر منهم عبيد خيري والطيب السلاوي، بل كان هناك بريطانيون يُدرسون الجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية، ولم نكن ننظر إليهم كـ«بقايا استعمار»، بل كمعلمين جديرين بالاحترام (بالمناسبة لم تكن المدارس الثانوية السودانية توظف من البريطانيين سوى خريجي كيمبردج وأوكسفورد) وبعد الطفرة الهائلة في التعليم العالي في سودان اليوم بحيث صارت هناك جامعة لكل قرية، صارت عندنا في السودان رياض أطفال تحمل اسم كيمبردج وأوكسفورد، مع أن الجامعات ستات الاسم ليس لديها رياض أطفال (مما يوضح إلى أي مدى صارت للأمور عندنا مقلوبة: تعمل جامعة لا تعترف بها وزارة التعليم العالي وتفتح مستشفى من دون رخصة وزارة الصحة لأن ابن آدم السوداني صار رخيصا وسلعة!)

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]