الولايات “تُصحِّح لنفسها”
(تكدّسَ الطريقُ بالأسرارِ/ وحيث لا نشيد يعلو فوق الطفحِ/ يحكُّ الكلامُ حلقَ رغبتِهِ/ فيحبسهُ الليلُ عن النوافِذِ/ المُطِلةِ على المشهدِ العبثي/ لا تخرج الليلة!).
القصيدة عند (أحمد عبد الزهرة الكعبي) تجعل واقعنا عُرضة للتحلل، ليس التحلل الوارد ضمن الفقه السوداني الراهن، بل الذي يحدث يومياً في سياق الأحداث المتواترة، ما يجعلك الكلام عندك (يحك حلق رغبته) ويستحيل مداداً يكتب عن المشهد العبثي الماثل، فلا تخرج هذه الليلة، إن شئت، أو أخرج، فالطرق السودانية ملأى بالأسرار (المُعلنة).
لا أسرار في هذه البلاد، كل شيء يباع ويشترى على قوارع الطرق ونواصي المقاهي، وبين ظهراني (ستات الشاي)، وظلال فرندات السوق العربي الشحيحة والحسيرة.
قال الرجل بصوت جهور، قبل أن يرفع كتفيه وينزلهما بسرعة فرط الاستهجان والاستنكار والدهشة، أو ربما اللا مبالاة، قال: (انتو ناس حكومات الولايات ديل جنوا واللا شنو؟)، سكت برهة حتى تأكد من الحلقة حوله تصيخ جيداً وتصغي، ثم أفرد صفحتيّ الوسط في أكثر من ثلاث صحف، حتى يقطع الشك باليقين. وواصل: ما ممكن يبددوا أموال الشعب في الكلام الفارغ دا؟ رفعت الحلقة عيونها نحو الصفحات المُشرعة بين يديه، ثم عبست وبسرت (أي نظرت بكراهية شديدة)، إلى تلك الإعلانات الترويجية التي تمجد فيها حكومات الولايات (نفسها) وتثني على أدائها، وترفع (براها كدا) من أقدارها درجات، وأضاف الرجل متهكماً (يعني تصحح لنفسها وتقف ليها كمان).
الغريب في الأمر، أن تلك المواد الصحفية مدفوعة الثمن، التي تسبح بألوان زاهية باسم الإنجازات التي حققتها حكومات الولايات ليس من بينها إنجاز واحد، فكلها تتحدث عن واجبات بسيطة وعادية تفعلها يومياً (ملايين) المؤسسات العادية في العالم كله، فمثلاً، ما الإنجاز في أن تعلن ولاية الخرطوم عن – ما أسمتها – النفرة الكبرى لترقية وتطوير النظافة، التي خصصت لها إدارة كاملة أطلقت عليها – لاحظ الاسم – (الإدارة الإشرافية العليا للنظافة) ما يوحي من (كلمة عليا) أن (مخصصاتها عليا) كمان.
هل ترون أعزائي القراء، أن ثمة حاجة لهذه الإدارة العليا؟ وهل من داع للإعلان عنها؟ ولماذا لم تعكف الولاية على تطوير أداء (إدارة النظافة السفلى)، ربما هنالك إدارة كهذي طالما هنالك (عليا)، وضخها بالكفاءات والكوادر والخبرات حتى تتخلص الخرطوم من لقبها الصقيل والثقيل في آن بأنها (عبارة عن كوم زبالة)، وبالتالي فلن تكون بحاجة إلى إدارة جديدة ذات لافتة خادعة وبراقة مثل تلك التي وردت في صدر الإعلان.
الحلقة تضيق، والرجل يفتح صفحة أخرى، أول الغيث قطرة، محلية الخرطوم (الوثبة الثانية) التي شملت افتتاح مدارس في الرميلة،ومركز شباب سوبا، وتكريم الحي النموذجي، والمهرجانات الرياضية، وحي المروة، وأسواق البيع المخفض في أبي حمامة، وحي المروة… إلى آخره. فهل تستحق هذه (الحاجات الصغيرة) التي هي من صميم عمل أي إدارة محلية وهي أبسط ما يمكنها فعله كل هذه الضجيج والزعيق، يعلن عنها وكأنها إنجازات تضاهي (سد النهضة الإثيوبي)، وتسمى (وثبة ثانية كمان)!!
تناول الرجل عمامته، ولفها بعناية حول رأسه، ونظر إلى الحلقة، ثم قال بصوت خفيض، ودعتكم الله، ماشي لي مشوار كدا، لكن بكرة بجي بكلمكم عن زكاة كسلا والقضارف وسياحة بورتسودان، ونفرة شمال كردفان، ثم لوح بيده مودعاً.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي