جعفر عباس

عسكروني وفشلت

[JUSTIFY]
عسكروني وفشلت

كان الزي الرسمي في المدرسة الثانوية الشورت الكاكي (ولسبب غير مفهوم نسميه في السودان «الردا» رغم أن كل قطعة من الملابس «رداء»)، وقميص أبيض، وكانت اللوائح المدرسية تقضي بأن يكون القميص «مشكوك» كما نقول في السودان عن إدخال الأطراف السفلى من القميص داخل الشورت أو البنطلون، وليس مثل أزياء الطلاب السودانيين اليوم الذين تراهم فتحسبهم جنودا هاربين من الخدمة، وكانت الحكومة تقدم لكل طالب في المرحلة الثانوية شورتين وقميصين من الكاكي، ولكن فقط للتدريب العسكري، ومعهما بوت أسود وقاش (حزام عريض وسميك إبزيمه – المشبك الذي يربط طرفيه – من النحاس ولو ضربت به وحيد القرن وقع مغشيا عليه) وكانوا يعطوننا علبة مكتوب عليها براسو، و«براس» بالإنجليزية تعني نحاس (إلى جانب كلمة كوبر copper)، وكان السائل الذي في تلك العلبة يساعدنا على تلميع الأجزاء النحاسية من الحزام المسمى «القاش»، ولو قفشوك في الطابور وتلك الأجزاء متسخة أو صدئة، فالعقاب قد يكون ذلك بالحكم عليك بأن تقف معتدلا في نقطة واحدة ثلاث ساعات، أو أن تزحف على بطنك لمسافة معينة في أرض غير مستوية، ولم يكن ذلك النوع من التدريب (كان الطلبة يسمونه الكاديت، مع أن كلمة كاديت الإنجليزية تعني «طالب حربي»)، يتطلب سوى إجادة الطوابير والسير بخطى عسكرية، لأن الشق العسكري الحقيقي كان يؤجل حتى إكمال الطالب للصف الثالث الثانوي، فعند الإجازة التي تسبق الانتقال إلى السنة النهائية كان يتم توزيع طلاب الثانويات في السودان إلى ثلاث معسكرات ضخمة كل منها يضم طلاب نحو خمس أو ست مدارس، وعندما أتى الدور علينا كان المعسكر الجماعي في مدرستنا (وادي سيدنا) وكنا ننظر باستهزاء لطلاب مدارس العاصمة وهم يبدون دهشتهم لروعة المباني والمساكن وميادين الرياضة الخضراء وحمام السباحة ونادي الزوارق وملاعب التنس، فالمدارس داخل مدن العاصمة الثلاث لم تكن بها أقسام داخلية وكان كل طالب يعود إلى بيته فور انتهاء اليوم الدراسي، أي أنهم لم يعرفوا العز الذي عرفناه على نفقة الحكومة.
كان عساكر وضباط جيش حقيقيون يشرفون على معسكرات التدريب العسكري الجماعية، وكانوا معتبرين الحكاية «جد»، أي أن التدريب كان قاسيا، فقد كانوا مثلا يرغموننا كل صباح على ممارسة الرياضة ونحن نحمل «البندقية أم عشرة» (كانت تسمى كذلك لأن طاقتها القصوى عشر طلقات فيما أعتقد)، ثم كانوا يأمروننا بالجري لعدة كيلومترات ونحن نحمل تلك البنادق الركيكة، وكانت كل الأوامر والتعليمات تتم بالصراخ: عسكري انتباه.. تكون فقط أنت وهو في مكان خال لإيقاع عقوبة عليك ويصرخ صاحبنا الشاويش وكأنه يريد قائده في الخرطوم أن يسمعه، وكان يقود الطوابير شاوش (رقيب) كنا نسميه هتلر، فقد كان صارم الملامح، ولا يقبل أي قدر من التراخي في الطوابير أو ضرب النار، وكان بعضنا يمارس الاستعلاء على «العساكر الجهلة» وكان مصير هؤلاء في كثير من الأحيان السجن لعدة أيام داخل غرفة أو العقاب البدني بالزحف أو الجري لمسافات طويلة، وفي المساء كان يتم تكليف طالب بالقيام بأعمال الدورية حول معسكر مجموعته، وكانت مجموعتي في داخلية جماع، وكنت ذات ليلة مناوبا ومطالبا بالدوران المنتظم حول المبنى، ولسوء حظي كانت الجهة الشمالية منه شجيرات مكثفة تبدو مرعبة في الظلام، وفجأة ظهرت مجموعة من الكلاب الهائجة وهي تجري بسرعة هائلة فرميت سلاحي ودخلت المعسكر «الداخلية» وبعد نحو ساعة خرجت على أطراف أصابعي لاسترداد البندقية فإذا بي أجد نفسي وجها لوجه أمام «قائد ثاني المعسكر وكان الملازم ثاني عبدالعظيم»، ولسعادتي استقبلني ضاحكا ومد إليّ البندقية قائلا: أوع تحاول تدخل المجال العسكري، فقلت له: جزاك الله خيرا حتى لو أخرجتني من هذا المعسكر شبه العسكري.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]