ثبات المناهج والهيلاهوب
لأن التعليم في السودان كان مستقرا والمناهج ثابتة ومدروسة بعناية، وبالتالي لم تكن تتعرض للترقيع والشطب والإضافة كما يحدث اليوم بهدف إنتاج ببغاوات، يتم شحن عقولها بكلام سخيف يؤدي إلى إلغاء العقول، فلم يكن غريبا أن أجد في كتاب الرياضيات الذي تسلمته اسم إبراهيم طه أيوب، ولم أعرف من يكون هذا الإبراهيم إلا في عام 1985 عندما صار وزيرا للخارجية في أول حكومة يتم تشكيلها عقب سقوط حكم نميري، وتكرر الأمر مع العديد من الزملاء الذي اكتشفوا أن الكتب المخصصة لهم تحمل أسماء شخصيات في مجلس الوزراء والبنك المركزي، وكان على كل طالب دفع تأمين (أَمَنية) قدرها خمسة جنيهات مع بداية كل عام دراسي نظير الكتب الدراسية، وكان كل طالب يتسلم كتاب رياضيات واحد يبقى معه لأربع سنوات، بمعنى أن الطالب كان يدرس من الصفحة الأولى حتى صفحة كذا في السنة الأولى ثم من تلك الصفحة إلى صفحة كذا من نفس الكتاب في السنوات التالية، وكان الأمر كذلك بالنسبة لمقرر الفيزياء فقد سلموا كل واحد منا كتابا كنا نسميه «ماكنزي» على اسم مؤلفه ويبقى معنا أربع سنوات، وبعد الجلوس لامتحان الشهادة كان كل طالب يسترد مبلغ الخمسة جنيهات كاملة إذا لم يضيع كتابا، أو جزءا منه مع خصم قيمة المفقود من الكتب، وهكذا كنا لا نفرط في كتبنا، لأن أهلنا يكونون قد نسوا أمر التأمين، وتخيل القفزة الاقتصادية التي تمر بك وفي جيبك خمسة: أهم شيء دخول سينما النيل الأزرق التي كان يحتكرها طلاب جامعة الخرطوم ولم تكن تعرض إلا أفلام هوليوود، ثم الجلوس في مقهى المحطة الوسطى في الخرطوم لشرب العصير وكانت الخلاطات الكهربائية محدودة الانتشار وقتها (كنا نسميها الهيلاهوب ربما لأن السوائل تدور داخل الخلاط بنفس طريقة رقصة الهولاهوب وهذه هي التسمية الصحيحة للرقصة)، ثم التوجه إلى محلات بابا كوستا الإغريقي لشراء الباسطة/ البقلاوة، وذقت مختلف صنوف البقلاوات ولم أجد إلى يومنا هذا ما هو في طعام ما كان يبيعه بابا كوستا، وعوضنا الله خيرا ففي جامعة الخرطوم كانت الباسطة/ البقلاوة تقدم لنا مع وجبة الغداء كل يوم أربعاء مع الفاصوليا البيضاء، وأذكر أنني أبلغت صديقا ذات يوم أربعاء بأن عمه توفي فطلب مني التكتم على الأمر حتى فراغه من تناول وجبة الغداء ليتقبل العزاء ثم يسافر إلى قريته. وكانت هناك مدرستان ثانويتان في نفس مرتبة وادي سيدنا في كل النواحي هما حنتوب وخور طقت، ولهذا كانت الأجيال الأولى التي تلقت تعليمها في المدارس الثلاث ثم في الجامعة الوحيدة «جامعة الخرطوم» هم من شكلوا الوزارات وشغلوا المناصب العليا في الدولة، ومن هنا جاءت احتجاجات أهل الأطراف بأن نخبة شمالية انفردت وما تزال تنفرد بالحكم وكل بلاوي البلد من تحت رأسها (وهذا كلام اتفق معه تماما رغم أن خريجي خور طقت ومعظمهم من نوابغ البلاد لم يجدوا نفس فرص خريجي وادي سيدنا وحنتوب لأنها كانت في كردفان التي تقع في الغرب الأوسط في السودان). وكما طارت مدرسة وادي سيدنا وصارت كلية عسكرية فقد طارت كل من حنتوب وخور طقت فصارتا جامعتين، وطلاب الجامعتين أفضل حظا من أولئك الذين وجدوا أنفسهم طلابا جامعيين في مدارس متوسطة صدرت فرمانات عشوائية بتحويلها إلى جامعات بين عشية وضحاها، ويتفوق السودان على كل الدول الأفريقية في مجال عدد الجامعات وعدد المطربات.. ففي كل «شِبه مدينة» جامعة، وفي كل حي سكني مطربتان وهذا يفسر ظاهرة الشهادات والأغاني العشوائية التي يلحظها كل سوداني
[/JUSTIFY]جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]