ضياء الدين بلال

رمضان وتلك الأيام


[JUSTIFY]
رمضان وتلك الأيام

الماء على الصينية المكسورة على طرفها الأيمن، والمروحة تطلق الهواء الساخن، ليتبلَّل بالماء، قبل أن يصل إلى الأجساد اليابسة.
الثياب والملايات مبللة بالماء، في مقاومة السَّمُوم.. كل ذلك لا يخفف سخونة الطقس.
السهو المتعمد يسرب قطرات من ماء الوضوء إلى الحلوق الجافة، وماذا عن (صيام الضب)؟.
أصعب الأوقات ما قبل الإفطار بساعتين.. السيارات تتجه لغرب المناقل، إلى ما بعد جبرونا، مشروع مياه المدينة.
هناك…
مياه جارية وأشجار ظليلة ومزاج مختلف.
العودة ما قبل الإفطار بدقائق.
مساجد كشكوش تبكر بالأذان، والشمس تجري لمستقر لها، وناس المزاد (كيتن في ناس كشكوش)، ينتظرون الأذان من الشيخ/ صديق أحمد حمدون في إذاعة أم درمان مع مراعاة فارق الوقت والتقدير.
تمتلئ البطون والأفواه على جفاف، وفي العشاء ما بعد السهرة، يطيب الطعام (أوع من الشطة يا ولد).
صبي يلعب في الساحة الجنوبية لصهريج الموية بحي المزاد، ويدرس بالمدرسة الغربية، ويصلي العصر بمسجد الشيخ الجليل ود بقوي (أين أنت يا شيخ يوسف إدريس؟)، ويتعلم قراءة القرآن على يد شيخ إسماعيل سيد أحمد.
كان ذلك قبل منتصف الثمانينيات وبعدها.. بداية تعلم الصيام في صيف ساخن، يعود بعد أكثر من ثلاثين عاماً، بذات الملامح والتفاصيل.
جارنا بمدينة المناقل الباشمهندس عبد الله فضل المولى، مدير الكهرباء، كان يفعل ذات الشيء الذي فعله أحمد هارون في شمال كردفان.
في الخريف، تتساقط أعمدة الكهرباء، مع نزول الأمطار واختلاطها بالتربة الطينية.
في نهارات رمضان الخريفية، كانت المهمة بالغة الصعوبة وشديدة المشقة.
إعادة الكهرباء للمدينة، الأعمدة الإسمنتية ساقطة في الوحل، والأسلاك متداخلة بصورة يصعب فكُّها عن بعضها، والمدينة تصحو وتنام على الظلام.
في الخلاء والشمس في رابعة النهار، تعطلت عربات الحفر، ولا بديل سوى الحفر اليدوي.
العمال صائمون، والمهمة شاقة، والحلوق يابسة.
كل عامل ينظر للآخر، ثم ينغرز بصره في الطين اللَّزِج.
مدير الكهرباء كان هناك..
في نفسه عزم وإصرار.. رجل قليل الكلام كثير الأفعال، كان عازماً على ألا يعود إلى بيته قبل عودة الكهرباء إلى مراوح الصائمين وثلاجاتهم.

شمَّر الرجل بنطاله، وأخذ الحافرة اليدوية، وشرع في إنجاز المهمة.. سارع العمال: (لا يا باشمهندس.. لا يا باشمهندس).
أصر الرجل على إكمال ما بدأ.
اشتعل حماس الجميع من عمال ومهندسين إلى إنجاز المهمة، وحلَّلوا صيامهم من مياه الترعة وبعض ثمرات.
أُنجزت المهمة، وعادت الكهرباء بعد الواحدة صباحاً.
والأطفال يهتفون:
(الكهرباء جات أملوا الباغات هسه بتقطع).
حينما تم نقل الباشمهندس عبد الله إلى الحصاحيصا، تحركت الوفود إلى الخرطوم مطالبة بإلغاء القرار. فشلت المساعي، وعندها نظمت المدينة أكبر احتفال في الجزيرة، لوداع مسؤول بالدموع والدعوات. كان عفيف اليد، نظيف اللسان، فعالاً وليس قوالاً.
ما أجمل الذكريات.. كل رمضان وأنتم بخير وعلى خير أعزائي القراء والوطن في سلام وأمان.
[/JUSTIFY]

العين الثالثة – ضياء الدين بلال
صحيفة السوداني