جعفر عباس

انبهار مبرر جداً

[JUSTIFY]
انبهار مبرر جداً

كي لا يحسب بعضكم أنني في هذه السلسلة من المقالات التي أتكلم فيها عن تجربة الانتقال من القرية الى المدينة للالتحاق بالمرحلة الثانوية، أعبر عن انبهار قروي بعاصمة بلاده، تعالوا نحرك شريط الفيديو فاست فوروورد (إلى الأمام بسرعة)، لنصل الى المرحلة التي صعدت فيها إلى العلالي، وانتقلت من العالم الثالث الى العالم الأول بعد 3 سنوات من تخرجي في الجامعة، حين عملت ضابط إعلام ومترجما بالسفارة البريطانية في الخرطوم، وصرت أرتدي الكرافتة وأشارك في ترتيبات حفل عيد ميلاد الملكة إليزابيث الثانية. هذا ليس موضوعي: كان المستشار في السفارة رجلا من مقاطعة ويلز اسمه رونالد قرايمز، وكان يقول إن إلمامه باللغة العربية جعله من أتعس الدبلوماسيين. ليه؟ واي؟ لأنني «تدبست» في العواصم العربية، أقضي في هذه العاصمة أربع سنوات أو أقل فيتم نقلي إلى عاصمة عربية أخرى… باختصار كان قرايمز هذا يعتبر نقله الى الخرطوم ترقية، وكان سعيدا أيما سعادة بوجوده في مدينة نظيفة وراقية وبها نشاط ثقافي وفني واجتماعي شديد الرقي في تقديره، وأحب قرايمز الخرطوم بدرجة أنه حلف بالطلاق أنه حينما يكمل مدته المقررة في الخرطوم لن ينتقل إلا إلى بيته في ويلز أي سيطلب التقاعد لأنه اعتبر الخرطوم «تحلية» ينبغي أن يختتم بها جلسته في مائدة العمل الدبلوماسي، وبالفعل ترك الخرطوم وترك العمل الدبلوماسي.
هذا خواجة عاش مجد الإمبراطورية البريطانية وتنقل بين العديد من العواصم، ويقول إنه لن يفسد متعة العيش في الخرطوم بالانتقال إلى أي بقعة خارج بلاده، فكيف لا ينبهر بها صاحبكم القروي؟ وأقسم بالله أنه حتى نهاية السبعينيات كان معظم القرويين يتهيبون مجرد المرور أمام متاجر السوق الإفرنجي في الخرطوم، وبالتالي فمن الطبيعي أن صاحبكم منذ ان دخل مدرسة وادي سيدنا الثانوية الواقعة شمال ام درمان، وهي الضلع الأكبر في عاصمتنا المثلثة أي المؤلفة من ثلاث مدن (صارت اليوم ما يسمى في علم الهندسة «شبه منحرف» وهو الشكل الذي له عدة أضلاع غير متساوية).. المهم منذ التحاقي بتلك المدرسة عقدت العزم على الالتحاق بجامعة الخرطوم، ليس حبا في البكالوريوس بل في الوظيفة التي سيتيحها لي البكالوريوس حتى أتمكن من دخول سويت روزانا (اكتشفت لاحقا أنه محل لبيع الآيسكريم والمشروبات الطازجة) ومقهى أتينيه الذي كان مملوكا لأختين يونانيتين ويقدم أفخر أنواع السندويتشات والعصير الطازج (شكرا للدكتورة ماندي أبو شامة التي عاشت جانبا من حياتها في خرطوم ذلك الزمان وأمدتني بالمعلومات عن مالكتي أتينيه وذكرتني أيضا بآيسكريم ندى ومكتبة سودان بوكشوب التي كنت تجد فيها أرقى المجلات الأجنبية بما في ذلك مجلات الموضة، ثم جار بنا الزمان حتى صار الرجل السوداني يقلد أهل بوركينا فاسو في موضة الجلابيب القصيرة والسراويل الفضفاضة الزرقاء والبنية والصفراء).
وأذكر عمنا بولس والد زميلتنا في جامعة الخرطوم روز ميري، (مسيحيون سودانيون طفشوا في تسعينيات القرن الماضي إلى العالم الأول)، وكان يملك مكتبة دار أمون، وكان موسوعي المعرفة، وهو الذي عرّفني بالأديبة الآيرلندية آيريس ميردوك، وكان يعطيني الكتب ببلاش بشرط أن أعيدها اليه في حالة جيدة. وأتذكر جارنا قليدوس الهندي في كوستي والذي كان يعالجنا بأعشاب هندية، وعمنا القبطي تقلا في كوستي، وكان جميع سكان حي المرابيع يحبونه ويستدينون منه المؤن، وتذكرت دكتور جرجس إسكندر في كوستي الذي ظل طبيب البسطاء طوال حياته.. أتذكرهم وأتذكر الجنوب افريقي ألن بيتون وروايته الرائعة «ابكِ أيها الوطن الحبيب Cry the Beloved Country».

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]