جميلة ومستحيلة فعلا
قد يشْتَم القارئ رائحة التباهي وأنا أتكلم عن مدرستي الثانوية (وادي سيدنا)، وأحب أن أطمئنه بأن حاسة الشم عنده سليمة، فأنا فعلا فخور بتلقي تعليمي في تلك المدرسة، وأقول بكل ثقة إنني لم أر لها مثيلا من حيث الفخامة لا في بريطانيا ولا دول الخليج ولا فرنسا ولا ألمانيا ولا الصومال، بل استطيع أن أقول، وقد هيأت لي الأقدار فرصة زيارة مدينة بوسطن الأمريكية حيث جامعة هارفارد ومعهد ماساشوستس للعلوم، إن مباني المؤسستين الفخمتين شكلا ومحتوى ومخرجات ذكرتني بمدرسة وادي سيدنا، مع فارق كبير وهو أن مدرستي كانت مدينة قائمة بذاتها وكانت تشغل مساحة تكفي لإسكان نحو 10 آلاف شخص ولهذا احتلتها حكومة جعفر نميري العسكرية وجعلتها كلية حربية وقاعدة جوية.
دعكم من فخامة المباني وميادين الكرة الخضراء المحاطة بأشجار الجميز العملاقة، ما قولكم في أن أقوى الأصوات معارضة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا المطربة رددت معها القارة السوداء «هارامبي أفريكا/ تعالوا نعمل سويا يا أفارقة» جاءتنا في المدرسة وغنت لنا بلهجات بلادها وبالإنجليزية، (شكرا لزميل الدراسة شوقي أبو الريش الذي ذكرني بهذه الواقعة)، وما قولكم في أن مطرب إفريقيا بلا منازع محمد وردي كان يأتي ليغني لنا ببلاش وكل ما كان مطلوبا منا في المدرسة هو توفير سيارة كبيرة لنقله مع فرقته الموسيقية من وإلى المدرسة، بل أنه غنى «المستحيل» التي تعتبر مرحلة مفصلية في تاريخ الغناء السوداني وفي مسيرة وردي نفسه، للمرة الأولى في مدرسة وادي سيدنا (تميزت «المستحيل» بأطول مقدمة موسيقية في تاريخ الأغنية السودانية ولم تتفوق عليها من حيث طول المقدمة سوى أغنية «جميلة ومستحيلة» لوردي نفسه، وتستحق مدرستي العنوان أعلاه لأنها لن «تتكرر»)، كما أن شرحبيل أحمد صنع مجده الموسيقي في أوساط الشباب انطلاقا من وادي سيدنا فقد كان يتبرع بإحياء حفل فيها مع نهاية كل عام دراسي، وشرحبيل كان أول من اكتفى بالجيتار وآلات النفخ وطبول الإيقاع في الغناء السوداني (كان علي نور الجليل يعزف الساكسفون مع شرحبيل منذ أن كان يدرس الطب في جامعة الخرطوم، وهجر السودان وصار أول من أجرى عملية قلب مفتوح في بريطانيا ثم أحد أعلام جراحة القلب عالميا، ثم اختار التقاعد المبكر لدراسة الموسيقى في جامعة مانشستر بعد أن تجاوز الستين).
ومن يتلقى تعليمه في مدرسة كهذه لابد وأن يصاب بجرثومة الغرور، وكان من أكثر تجليات ذلك الغرور، ميلنا إلى التخاطب بالإنجليزية خلال السفر في مجموعات بالقطار، أو التجوال والجلوس في أماكن عامة، ولم يكن غروري يتجلى مثل الآخرين في استعراض عضلاتي الإنجليزية، بل في التحدث بالعامية العربية بطلاقة، بعد أن تخلصت من اعوجاج «اللسان النوبي»، وصرت أنادي الناس بأسمائهم الصحيحة: صالح ومصطفى ومحمد وخالد (وكانت من قبل: سالي ومستفى وميمد وهالد على التوالي) وعرفت أن شقيقتي «هجيجي» هي أصلا خديجة، بل بذلت محاولات متكررة ولكن بلا طائل لتلقين أمي ذلك الاسم على وجهه الصحيح، بعد أن عرفت أن «هجيج» في عامية أهل الخرطوم تعني الطرب والرقص والضجيج، وحاشا أن تكون بنت عباس أبو شنب من المهججين، كما صارت أختي «هبسي»، حفصة، وانتبهت لاحقا إلى أن إنهاء أفراد قبيلة الشايقية الكلمات التي تنتهي بالهاء أو التاء المربوطة بالإمالة بالكسر (كريمة/ كريمي، ونفيسة/ نفيسي) مأخوذ عن اللغة النوبية، مما يؤكد أنهم نوبيون استعربوا منذ عهد قريب، فبلادهم بها متسع للرعي والزراعة، فأقام فيها المهاجرون العرب بعكس مناطق النوبة الشمالية الصخرية التضاريس التي مر بها العرب ترانزيت، ولهذا احتفظوا بلغتهم الأم بينما استعرب النوبيون المقيمون في الأراضي السهلية ذات الماء الوافر.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]