جعفر عباس

باي باي سعاد حسني

[JUSTIFY]
باي باي سعاد حسني

بعد قضاء أربع سنوات في مدرسة وادي سيدنا الثانوية بكل بهائها المعماري والأكاديمي والثقافي والاجتماعي، والتعامل مع عاصمة البلاد طوال تلك السنوات، حسبت أنني صرت ابن بندر (مدينة)، ولم أعد قرويا يخاف من الكوكا كولا، ويحسب أن العنب لا يوجد إلا في الجنة، ولم أكن أتخيل أبدا ان طفرة أكبر من كل ما مررت به من طفرات، في انتظاري بمجرد التحاقي بجامعة الخرطوم، أحد أقدم الجامعات الحديثة في إفريقيا والشرق الأوسط (كان افتتاحها عام 1902 على يد اللورد البريطاني كتشنر الذي قاد الجيوش التي احتلت السودان بمسمى كلية غوردن السودانيون ينطقون الاسم خطأ بتقديم الراء على الواو وفي عام 1944 صار الاسم كلية الخرطوم الجامعية وبعد الاستقلال في عام 1956 صارت جامعة الخرطوم)، وكان مجرد الالتحاق بتلك الجامعة الحكومية الوحيدة في البلاد يعتبر وساما على صدر الطالب، وكيف لا وطلاب القارة السودانية جميعا يتنافسون على مقاعدها المحدودة، ومباني الجامعة تطل على النيل الأزرق لمسافة تقارب نحو ثلاثة كيلومترات (في السنوات الأخيرة سطت الحكومة على العديد من ممتلكات تلك الجامعة بذرائع مختلفة وتقلصت مساحتها ومكانتها وإمكاناتها).
كانت مدرسة وادي سيدنا الثانوية بعيدة عن ام درمان، ولم يكن يتسنى لنا مغادرتها إلا في العطلات الأسبوعية والإجازات المدرسية، وبالتالي لم نكن نتمتع بحرية التجول في مدن عاصمتنا الثلاث إلا على فترات متقطعة، ولكن وفور الانتقال إلى جامعة الخرطوم وجدنا أنفسنا في قلب مدينة جميلة نابضة بالحياة، بل إن ما في الجامعة من مرافق كان يعفينا من مشقة الذهاب إلى الداون تاون أي قلب المدينة، فأجمل دار سينما في السودان (سينما النيل الأزرق) كانت في أرض مملوكة لجامعة الخرطوم، وكانت تعرض أفلام هوليوود وهي طالعة من الفرن، وارتقت تلك السينما بأذواقنا فلم نعد نشاهد الأفلام العربية والهندية، ورغم أن ذلك كان يعني نهاية قصة الحب بيني وبين سعاد حسني إلا أن سينما النيل الأزرق عوضتني بكلوديا كاردينالي وناتالي وود (يعني حتى ذوقي النسائي صار خواجاتي علما بأن لغة التدريس في المرحلتين الثانوية والجامعية في السودان وقتها كانت الإنجليزية، وكانت جامعتنا تتبع لبعض الوقت جامعة لندن ثم دخلت تحت عباءة كيمبردج.. ثم خرجت حتى من عباءة جامعة الدول العربية التي لا تحل ولا تربط مؤخرا ولم تعد حتى الآن).
أهم ما في تلك النقلة السينمائية كان التمتع بحق مشاهدة أي فيلم بالكامل، وقد حدثتكم في مقال سابق أن عباس أبوشنب كان يمنع جميع عياله صغارا كانوا أم كبارا من البقاء خارج البيت بعد الثامنة مساء وبالتالي كنت في الإجازات في مدينة كوستي أدخل دار السينما وأخرج منها قبل إكمال الفيلم أي قبل سريان حظر التجول البابوي، وأذكر أنني جازفت ذات مرة وأكملت فيلما وعدت إلى البيت في التاسعة مساء، وكان لأبي رحمه الله شارب عليه القيمة، ولما رأيت طرفي الشارب منتصبين كذيلي عقربين، أدركت أنه سيسود عيشتي (لم يكن أبي من النوع الذي يضرب عياله ولكن كلماته الغاضبة كانت أشد إيلاما من الضرب)، فبادرته: واحد صاحبي مات، فكان رده الفوري: في زول يموت زي الساعة دي؟ كتمت ضحكتي وقلت مصطنعا الحزن: يا أبوي الموت ما عنده مواعيد معينة، فاستدرك بدوره: ما حصل سمعت أن عندك صاحب مات قبل كدا. كتمت ضحكتي أيضا ونلت نصيبا طيبا من الزجر وبعدها توبة من السينما إلى أن انتقلت إلى المرحلة الثانوية ثم وجدت سينما النيل الأزرق على مسيرة ثلاث دقائق من مكان سكني.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]