جعفر عباس

وخضنا تجربة التعليم المختلط

[JUSTIFY]
وخضنا تجربة التعليم المختلط

كان لا بد لمن يلتحق بالجامعة أن يكون على درجة معقولة من الأناقة لأن التعليم فيها كان مختلطا، ورغم أنه لم يكن هناك مرسوم يحدد الزي الجامعي إلا أن العادة جرت بأن ترتدي بنات الجامعة الثياب البيضاء المصنوعة من القطن السوداني الذي كان يتم تحويله إلى ملبوسات راقية في مصانع سويسرا (انظروا عظمة سويسرا: ليس بها شجرة قطن واحدة ولكنها إلى يومنا هذا أكبر مصنع لأفخر الثياب النسائية والعمائم الرجالية السودانية، والغترات الخليجية، وليست بها شجرة كاكاو واحدة وتنتج أفخر أنواع الشوكولاته، وليس بها منجم لأي نوع من المعادن وتصنع أغلى أنواع الساعات، وليس لديها قوات مسلحة ولكن حراسة بابا الفاتيكان يتولاها سويسريون، وفوق هذا كله فإن جميع الحكام والمسؤولين الحرامية يضعون نقودهم التي هي نقودنا في بنوك سويسرا).
ولا أذكر أنني رأيت زميلا داخل الجامعة منتعلا شبشبا مهما غلا ثمنه، مع أن شبشب «الشدّة» الذي ظهر في ذلك الزمان، كان جميل التصميم، والشاهد هو أننا كنا نهتم بالأناقة والنظافة، ليس فقط في المظهر العام بل أيضا في السلوك، ولم أسمع طالبا يتحرش ولو لفظيا بزميلة حتى لو كانت ترتدي الميني جيب، وهو تنورة تكشف جزءا كبيرا من الفخذ، وكان موضة في تلك الأيام بين البنات المتفرنجات، وفي الأشهر الأولى من السنة الأولى طبعا «حدّ الله» بيننا والبنات.. كل حي يروح لحاله، لا يكلمننا ولا نكلمهن، وشيئا فشيئا حدث التعارف والتآلف بعد أن اطمأنت البنات إلى أن زملاءهن مهذبون وأولاد ناس (طبعا كانت هناك قلة قليلة من الطلاب «أولاد الذين»، ولكنهم كانوا يمارسون جنوحهم بعيدا عن مسمع ومرأى البنات)، وهناك طلاب وطالبات قضوا في الجامعة أربع إلى ست سنوات من دون أن يتبادلوا كلمة مع شخص من الجنس الآخر، بل إن التهذيب شمل علاقات الطلاب ببعضهم البعض، فلم تكن ساحة الجامعة أو السكن الجامعي تشهد مشاجرات بالأيدي ولا بالتلاسن البذيء، ولكن كانت تحدث مشاحنات غير عنيفة بسبب الخلافات السياسية (لعل أول حادث عنف في تاريخ جامعة الخرطوم كان عندما هاجم جماعة من تنظيم الإخوان المسلمين – كانوا يعملون في الجامعة تحت مسمى الاتجاه الإسلامي – مسرحا كان يقدم عرضا للفنون الشعبية في السودان فتصدى لهم طلاب من اتجاهات سياسية أخرى).
وشيئا فشيئا تم رفع التكليف بين الطلبة والطالبات، وصارت هناك شلل تضم أعضاء من الجنسين، تقوم على الأخوة والثقة الكاملة، وبالطبع فقد نشأت علاقات حب بين هذا وهذاك، وأجزم أن 90% من تلك العلاقات التي استمرت نحو عامين متصلين خلال المرحلة الجامعية انتهت بالزواج، فقد كان طلاب وطالبات ذلك الزمان لا يستخدمون الشواكيش بكثرة (كلمة شاكوش بمعنى هجر الحبيب تم اختراعها في جامعة الخرطوم)، لأن الجميع كان يعرف «الأصول»، وأن الحب الذي لا يقود إلى الزواج مجرد تسلية ولا ينبغي لشخص أو شخصة محترمة التسلي بزميل أو زميلة.
وكما شكوت في كتابي الأخير «سيرة وطن في مسيرة زول» فقد كانت زميلاتي في الجامعة يعانين من خلل في غدد الذوق، ولهذا لم تتطوع ولا واحدة منهن لتحبني، لكن الأمانة تقتضي أن أعترف أنني بدوري كنت «أخاف» من الحب، لأنه ينبغي أن يقود إلى الزواج، وكانت أولويتي أن أدخل الحياة العملية لرد الدين لأهلي خاصة أبي الذي كان يوما ما قد حقق ثروة معقولة ثم جار عليه الزمان بعد أن أصيب بجلطة سببت له شللا جزئيا.. كنت دائم الحلم باليوم الذي أدخل فيه البيت وأقدم لأبي – قول- خمسين جنيها وأقول له: على كدا خالصين… فيضحك وأقول له: دا مجرد عربون.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]