جعفر عباس

طالب الجامعة والنضار والنوّار

[JUSTIFY]
طالب الجامعة والنضار والنوّار

عشنا في جامعة الخرطوم رفاهية فندقية، وكان السكن الجامعي (الداخليات) يستقبل الطلاب قبل بدء كل فترة دراسية بثلاثة أيام، وفور وصول الطالب جديدا كان أم قديما، كان عليه التوجه إلى مكاتب الإشراف على شؤون الطلاب ليعرف مكان سكناه، وما من طالب درس في جامعة الخرطوم حتى مطلع تسعينات القرن الماضي إلا وقضى على الأقل سنة أو اثنتين – في الداخليات المسماة البركس (كلمة إنجليزية تعني الثكنة العسكرية، وبالفعل فقد كانت تلك المباني مساكن لجنود الاحتلال البريطاني بينما كان المبنى الذي تم تخصيصه للخرطوم الثانوية القديمة مقر/مكاتب كبار الضباط الإنجليز) وكان يتم توزيع الطلبة والطالبات في كل مسكن بطريقة مدروسة تهدف إلى عدم وضع طلاب مدرسة ثانوية معينة أو إقليم معين في غرف مشتركة، وهكذا كان القادم من شمال البلاد يجد نفسه يتقاسم المسكن مع زميل من الشرق أو الغرب أو الجنوب، فذاك زمان لم تكن فيه عصبيات قبلية أو جهوية بل كان الطلاب أكثر تعصبا لمدارسهم الثانوية وكان التباهي يأخذ صيغا مثل: نحن أولاد، بنات المؤتمر، عطبرة، وادي سيدنا، خور طقت ، حنتوب، الأبيض (هذه أسماء بعض المدارس الثانوية وقتها).
وكانت معظم غرف السكن تضم شخصين، ولكن بعض الداخليات كانت بها غرف بها أسرة مزدوجة (السرير فوق الآخر bunk bed) تتسع لأربعة أشخاص، وعشنا العز في الداخليات: سرير في الحوش أي الساحة المفتوحة أمام كل داخلية للنوم صيفا وسرير بملاءة بيضاء نظيفة في الغرفة، وترتدي ملابسك تاركا سريرك ومكوناته معجونة ومكوّمة وكأنما كان مسرحا لصراع الديوك، ويأتي العامل المسؤول عن داخليتك (الفرّاش) ويرتب الأمور ويستبدل الملاءات المتسخة بأخرى نظيفة (تم تحويل داخليات البركس إلى مجمع لسكن الطالبات الوافدات من الأقاليم، ثم انتزاعه قسرا من ملكية الجامعة ولما احتج مدير الجامعة على ذلك قبل نحو ثلاث سنوات سمع خطاب إقالته وهو مسافر إلى الشمال من الخرطوم في مهمة رسمية، ولأن الله ابتلانا بحكومة لا تحترم التاريخ، فقد تم هدم المسكن الذي أقمت فيه لسنتين في البركس وكان يحمل اسم «بحر الزراف» وكانت جميع الداخليات بأسماء الأنهار في السودان: النيل الأبيض والأزرق وبحر الغزال والدندر وسوباط إلخ، كما تم هدم مباني الخرطوم الثانوية القديمة وكل المباني الملحقة بها، وكان بعضها ذا قيمة تاريخية عالية لأنها كانت الزنازين التي حبس الإنجليز فيها قيادات ثورة 1924).
أريد التذكير مجددا بأن الهدف من هذه السلسلة من المقالات هو تنوير جيل الشباب بأن حلم السودان الجديد، لن يتحقق ما لم نسترد السودان القديم الذي كان يوفر لبنيه وبناته التعليم والصحة والطعام، فلا يحسب طالب الجامعة اليوم أنه خطير لأنه يملك لابتوب وهاتف ذكي بل وربما سيارة خاصة: نحن كنا فخورين بامتلاكنا لأقلام جافة وكان الطلاب أولاد العز يرتدون جوارب مع أحذيتهم بينما كان غالبية الطلاب لا يعرفون للجوارب قيمة أو معنى، وفخورين لأن أساتذتنا كانوا يملكون أدمغة أفضل من الهارديسكات التي ابتدعها بيل غيتس وسيتف جوبس، ولم نكن سمعنا حتى بالشاورما دعك من البيرغر- ولكن الحكومة كانت تقدم لنا طعاما مجانيا لا تجده اليوم في معظم فنادقنا، على الأقل من حيث النظافة والمحتوى الغذائي.. نعم فوجبات الطعام المقدمة لنا كانت محسوبة من حيث ما تحتويه من بروتينات وفيتامينات ونشويات وسكريات، ولهذا كان بإمكان الناس النظر إلى وجه شاب فإذا رأوا فيه «نورة» كما نقول في السودان عن ملامح العافية والنضار، سألوه: أنت طالب في الجامعة؟.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]