جعفر عباس

ممنوع للشرطة ومسموح للمستهبلين

[JUSTIFY]
ممنوع للشرطة ومسموح للمستهبلين

لم يكن هناك أي شكل من أشكال الحراسة في مداخل جامعة الخرطوم، فمن شاء أن يدخلها فليدخل، ومن شاء أن يخرج فالباب يفوّت دبابة، ولم يؤد ذلك إلى أي مشكلة في أي سنة، (بالمناسبة كان ممنوعا على رجال الشرطة والأمن دخول الجامعة حتى لاعتقال من ارتكب جرما؛ فالاعتقال كان يتم عبر مكتب شؤون الطلاب)، ولكن كانت هناك حالات استعباط في السكن الجامعي بمعنى أن بعض المستهبلين كانوا يتسللون إليها أحيانا للإقامة حينا من الدهر وأحيانا لتناول وجبات مجانية، واكتشفنا ذات مرة شابا وسيما ينتمي إلى دولة مجاورة كنا نراه في قاعات الطعام وأروقة الجامعة، وكان في حقيقة الأمر ترزيا (خياطا) في السوق العربي، ولأن حبل الكذب قصير فقد انفضح أمره، حيث كان يقول لزيد إنه طالب في كلية العلوم، ولعبيد إنه طالب في كلية الاقتصاد، وفي نهاية ذات عام دراسي لاحظ زميله في الغرفة أنه يغيب عنها لعدة أيام، وعندما يعود إليها لا يفتح كتابا والامتحانات على الأبواب، فأحس بأن الحكاية فيها إن، وذات مساء انتظره حتى خرج من الغرفة وتبعه، وركب صاحبنا حافلة متجهة إلى قلب الخرطوم، ففعل زميله ذو الحس البوليسي نفس الشيء، وعندما نزل المستهبل في المحطة الوسطى ظل تحت المراقبة،.. ثم يا للمفاجأة انتهت المسيرة بوصول المستهبل إلى مدخل متجر في السوق العربي وجلوسه خلف ماكينة خياطة، وصاحب المحل التجاري يقول له: وينك يا أسطى.. كذا زبون شالوا قطع ملابسهم لأنهم لا يجدونك معظم ساعات النهار!! المهم عاد الطالب شيرلوك هولمز إلى غرفته وظل يقظا إلى أن عاد صاحبنا في ساعة متأخرة وسأله: كنت وين؟ فقال: كنت في المكتبة! ولكن المكتبة تغلق أبوابها في الحادية عشرة مساء والساعة الآن الواحدة صباحا.. المهم نام الرجل وفي الصباح أبلغ عنه الطالب مسؤولي شؤون الطلاب فأتوا بشرطي كمشه واقتاده إلى المخفر، ولم نره أو نسمع به بعد ذلك
واجهة جامعة الخرطوم الأيقونة التي يعرفها كل سوداني هي المكتبة المركزية، وكان جميع الطلاب الجدد يبدؤون يومهم الأول في كلياتهم بزيارة جماعية للمكتبة حيث يستمعون لشرح كيفية البحث عن الكتب باستخدام بطاقات ملونة ومرقمة تسمى «إندكس index»، وكانت تلك المكتبة من الضخامة بحيث يضيع الطالب في متاهاتها ودهاليزها وتعرجاتها حتى يجد فاعل خير: لو سمحت وين باب الخروج؟ وخلال السنوات التي قضيتها في جامعة الخرطوم لم أدخل مكتبتها الرئيسية سوى نحو أربع مرات، وفي كل مرة أذهب إلى أمين المكتبة: من فضلك أريد الكتاب الفلاني، والعجيب في الأمر أن معظم أمناء المكتبة كانوا يعرفون مواقع مختلف الكتب في مختلف المواد دون النظر إلى البطاقات التي تحدد أماكن وجودها، وما أغناني عن تلك المكتبة هو أن كلية الآداب كانت مثل بقية الكليات تملك وتدير مكتبتها الخاصة التي كانت تحوي عشرات الآلاف من الكتب، وكان من حق الطالب استعارة أي كتاب لأسبوعين وتجديد الاستعارة لأسبوعين آخرين، فقد كان التعامل مع المكتبة فرض عين؛ لأن ما يقوله الأساتذة في قاعات المحاضرات لم يكن «مقدسا» بل كان معلوما لدى كل الطلاب أن المحاضر يقدم فقط رؤوس الأقلام وعلى الطالب التنقيب عن المعلومات من المراجع المتوفرة بـ«الكوم» في المكتبة وبالتالي كان معلوما أيضا أن من يكتفي عند المذاكرة للامتحانات بما سمعه من المحاضر يرسب بالمزيكة، ولم يكن أي محاضر يعد مذكرات ليوزعها على الطلاب حتى بالمجان، فالتعليم لم يكن تجاريا، بل لا أذكر أن محاضرا دون الـ35 وقف أمامنا مقدما أي درس، وكان هناك مساعدو تدريس ولكن دورهم كان ينحصر في التعامل مع الطلاب في حلقات تضم كل منها نحو عشرين طالبا فيما يسمى تيوتوريال قروبس tutorial groups وهي جلسات تفاعلية يتم خلالها مناقشة موضوعات ذات صلة غير مباشرة بالمناهج.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]