جعفر عباس

ما تعلّمناه خارج قاعات المحاضرات

[JUSTIFY]
ما تعلّمناه خارج قاعات المحاضرات

أقمت في سنتيّ الأوليين بجامعة الخرطوم في «داخلية بحر الزراف»، التي تقع في واجهة المجمع السكني الشهير المسمى بالبركس (قلنا إن الكلمة انجليزية وتعني «ثكنات الجيش» وأنها كانت محل إقامة الجنود البريطانيين عندما كان السودان تحت الاستعمار الأجنبي، أي قبل أن يخضع للاستعمار المحلي)، ورغم أن الداخلية كانت في منتهى الفخامة، ومبنية من الحجر وتتوسطها صالة ضخمة تسمى «كومون روم» أي غرفة النشاط العام، ومزودة بمقاعد مريحة وبها طاولة بنغ بونغ، فإن عيني كأعين معظم زملائي الجدد كانت على داخليات تحمل أسماء كسلا والقاش وعطبرة، ذلك لأنها كانت من أربع طوابق، وعقدة القروي الخام هي المباني ذات الطبقات المتعددة (إلى يومنا هذا تجد في العديد من الدول العربية من يشيد مبنى تجاريا من طابق أرضي وآخر علوي مقسم إلى متاجر أو شقق سكنية يتحدث عن «عمارتي»)، وكنا ننظر بحسد إلى من يقيمون في الطابق الرابع من تلك الداخليات ونحسب أنهم نالوا تلك الدرجة الرفيعة بالواسطة والمحسوبية، والحسد يجعل الإنسان يشطح وينطح، ففي ذلك الزمان لم يكن هناك مجال لمجاملة أحد في السكن الجامعي أو القبول في الكليات أو درجات النجاح حتى لو كان ابن «أتخن» رأس في الحكومة.
وفي جامعة الخرطوم كنت تنسى انتماءك القبلي أو الجهوي، لأن من يشاركونك المسكن أو الكلية يكونون من الجهات الأربع، وكانت لكل مادة تُدرّس في الجامعة «جمعية» لها ميزانية مستقلة: جمعية الجغرافيا، الكيمياء، الطب، الجيولوجيا، الإنجليزية إلخ، فإذا لم يجمعك السكن مع بعض زملائك في الكلية فإن نشاطات الجمعية تجمعكما، وكانت هناك أيضا جمعيات للثقافة والمسرح والعمل العام (أشهرها جمعية تطوير الريف) وجمعيات تتبع للتنظيمات السياسية وبالتالي فقد كان المناخ العام في الجامعة مناخ وحدة وطنية تفاعليا، وكان الاستثناء الوحيد بعض أبناء جنوب السودان الذين لم ينصهروا في الجو العام للجامعة إما بسبب الفوارق الثقافية والدينية وإما لأنهم كانوا ينتمون إلى تنظيمات تنادي بانفصال الجنوب، وفي سنتي الأولى في الجامعة عشت في غرفة واحدة مع واحد من بلدتي (بدين) وكان ذلك مصادفة، لأنه نال تعليمه الثانوي في مدرسة غير مدرستي الثانوية (وادي سيدنا) وكما قلت من قبل فقد كان التوزيع على السكن يقوم على «خلط» طلاب مختلف المدارس والمناطق مع بعضهم البعض منعا لـ«التكتلات»، وكان من المصادفات أنه قريبي (حسن إبراهيم أفندي)، ومعنا طالب من منطقة الجزيرة، وفي سنتي الثانية سكنت مع واحد من القطينة (عبدالباسط سبدرات الذي شغل عدة مناصب وزارية في الحكومة الحالية «الإسلامية»، وكان وقتها شيوعيا متطرفا) وآخر من أم درمان (مكاوي عوض المكاوي الذي كان وزيرا للشباب في أواخر سنوات حكومة جعفر نميري).. شوفتوا الخيبة: يعني أبو الجعافر كان الوحيد في تلك الغرفة الذي لم يفز بمنصب عليه القيمة في بلاده.. ولا حتى سفير في بوركينا فاسو، وعزائي هو أنه لم تكن هناك وقتها دولة بذلك الاسم (كان اسمها جمهورية فولتا العليا وغيرت اسمها كما فعلت العديد من الدول الإفريقية بعد الاستقلال وكان ذلك كالعادة التغيير الوحيد الذي طرأ عليها من الاستقلال).
والشاهد هو أن المناخ السياسي العام في البلاد وسياسة التعليم العام والعالي لم تكن تشجع أحدا على إنشاء تكتلات طلابية على أساس المناطق أو القبائل كما هو الحال في جامعاتنا اليوم، حيث بلغ التناحر بين تلك التكتلات مراحل القتل العمد، ورغم كل ما أردده في مقالاتي عن أصولي النوبية فلم يحدث في جامعة الخرطوم أو بعد تخرجي فيها أن تعاملت مع سوداني بجفاء أو استعلاء لأنه غير نوبي ولم أجد معاملة من ذلك النوع البغيض حتى ممن يتباهون بأنهم «أولاد عرب».. نعم أعتز بجذوري ولكن اعتزازي بسودانيتي يأتي أولا.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]