وما حاجتنا إلى الساعات؟
أقول مجددا إن الغرض من هذه السلسلة من المقالات هو المقارنة بين حياة وتجارب جيلنا والجيل الذي تلانا، وشتان ما بينهما، أذكر أنه عندما كنا في المرحلة المتوسطة، كان عدد الطلاب الذين يملكون ساعات لا يزيد على أربعة، وانضممت إلى نادي مالكي الساعات وأنا في الصف الثالث من تلك المرحلة، عندما أعطاني شقيقي عابدين ساعة رومر، كانت مصابة بتصلب المفاصل وبالتالي لم تكن عقاربها تمشي أو تزحف، ولم يكن ذلك يهمني، بل المهم عندي كان أن هناك ساعة في معصمي، ولم تكن الإعاقة التي تعاني منها تلك الساعة تسبب لي حرجا لأنه ما من تلميذ كان يسأل عن الوقت، بمعنى أنه لم يكن «يفرِق» معنا ما اذا كانت الساعة الرابعة والنصف او الثالثة والربع عصرا، فالجرس يتولى تحديد موعد بداية ونهاية كل حصة دراسية، أما بالنسبة إلى الصلاة فقد كنا نحدد مواقيتها بحركة الشمس، ولأهلي النوبيين مهارات متوارثة في تحديد المواقيت.. وفصول السنة بالاستناد إلى التقويم القمري القبطي (كانوا مسيحيين عدة قرون وهذا التقويم مازال معمولا به أيضا في أنحاء كثيرة من وسط السودان وجنوب مصر وشهوره بالترتيب: توت، بابه، هاتور، كياهك، طوبة، أمشير -هذا شهر يكون فيه البرد مصحوبا بعواصف-برمهات برمودة بشنس بؤونه- هذا شهر تشتد فيه حرارة الشمس ويدعو عادل إمام في أحد أفلامه على شخص يكرهه: تدخل جهنم في بؤونه – أبيب، مسرى، وهناك شهر ثالث عشر لم تكن تهتم به سوى الكنيسة ويسمى نسيء)، وكان المزارعون عندنا -تذكر أنهم مسلمون جدا- يحددون نشاطهم الزراعي في ضوء ذلك التقويم القمري، فمع نهاية هاتور وبداية كياهك -مثلا- كانوا يزرعون القمح وهو محصول شتوي، وكانوا يحددون مواعيد توزيع المياه على الحقول في ضوء ساعة شمسية يسمونها «تتي / tatti» وهي وتد خشبي يدفن في الأرض بارتفاع متعارف عليه، ويرسمون خطوطا دائرية حوله، يتم تغييرها مع تغير حركة الشمس، ومتى ما بلغ الظل خطا معينا ينتهي دور حقل فلان في نيل الري/ الماء، ويأتي دور علان، وكان بعض المزارعين من المهارة في قراءة ظل الـ«تتي» بحيث لم يكونوا بحاجة إلى النظر إلى الخطوط الدائرية، فنظرة من البعد إلى طول الظل، كانت تكفي لمعرفة بداية ونهاية الجدول الزمني لري كل حقل، ومن بين هؤلاء المهرة كان المزارعون يختارون شخصا يطلقون عليه مسمى «صَمَدْ»، وكلمته نهائية في توزيع حصص المياه، وكان نظير قيامه بمهامه ينال نسبة معينة من محصول كل حقل يقع في دائرة اختصاصه، وحتى غير المزارعين -ربات البيوت مثلا- كانوا يحددون مواقيت الصلاة بالنظر إلى ظلال الجدران، وبالطبع ليس عسيرا على أحد تحديد مواقيت صلوات الصبح والمغرب والعشاء.
ورغم أن سودان اليوم أكثر فقرا من حيث مستويات معيشة المواطنين على الأقل، من السودان الذي قضينا فيه سنوات الطفولة والشباب، فإنك قد تجد في الصف الأول في المرحلة الابتدائية أن نصف التلاميذ لديهم ساعات، أما النصف الآخر فعندهم ساعات فخمة ولكنهم لا يستخدمونها ويكتفون بمعرفة الوقت من الهواتف الجوالة، بل صارت تلك الهواتف تستخدم في الغش أثناء الامتحانات، إما بحشوها بالمعلومات أو إخفائها بمهارة والتواصل مع «عميل» خارج قاعة الامتحان يتم تبادل الأسئلة والأجوبة معه همسا أو بالنصوص المكتوبة عبر سماعات، بينما كانت أرقى تكنولوجيا للغش في زماننا، كتابة بعض المعلومات في كم القميص وثني وفَرْد الكم حسب الضرورة، ويا ما قضى بعضنا الساعات الطوال في شحن الأكمام بالمعلومات ثم فوجئ في ساعة العوزة بأن العرق قضى عليها وعلى القميص نفسه.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]