طوف وشوف واحكم بنفسك
سأفترض أن كثيرين ممن يقرأون لي من جيل الشباب، إما مازالوا على مقاعد الدراسة الجامعية أو نالوا البكالوريوسات في السنوات الأخيرة، التي صارت فيها مدارسنا تنجب عباقرة (يحرز الواحد منهم 90% في امتحان المساق العلمي للشهادة الثانوية ويقولون له: سوري مجموعك هذا لا يؤهلك لدراسة الطب او الهندسة.. إيه رأيك في معهد التمريض الأوسط؟)، ولهذا سأواصل الحديث عن جامعة الخرطوم التي لم تكن تنافسها في الترتيب في عموم القارة الإفريقية، سوى جامعتين في جمهورية جنوب افريقيا الغنية بالذهب واليورانيوم (كثيرون في السودان لا يعرفون أن المناضل الأشهر نيلسون مانديلا الذي تحول من حبيس الى رئيس لجنوب إفريقيا كان يحمل خلال سنوات النضال السرّي وقبل اعتقاله جواز سفر سودانيا كان يطوف به بلدان العالم طلبا للتأييد والمساندة).
سأتحدث على عجل عن المستوى الأكاديمي في تلك الجامعة متخذا من كليتي (الآداب) نموذجا، وأكتفي بذكر أسماء بعض أساتذتنا: بروفيسور عبدالله الطيب صاحب العديد من المؤلفات والتي أهمها «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» والذي كتب مقدمته الدكتور طه حسين، وقال إنه أفضل مرجع على الإطلاق لفهم الشعر العربي القديم، وستجد ذكر اسم الكتاب في أكثر من 500 ألف موقع على الانترنت، والناقد والأديب والمفكر الفلسطيني الفذ إحسان عباس الذي ألّف وحقق وترجم أكثر من تسعين كتابا، والأديبة الفلسطينية سلمى الخضرا الجيوسي التي تولت جامعات أمريكية طبع جميع مؤلفاتها لأنها كانت موسوعية المعرفة بالأدبين العربي والإنجليزي، وبروفيسور شيني أحد أشهر علماء الآثار المعاصرين ويعمل حاليا محاضرا في جامعة تورنتو بكندا، وجون أباظة الذي يعد من أكبر نقاد أعمال شكسبير ولا تخلو دراسة لأدب شكسبير من اسمه (وأفخر بأن علاقتي به امتدت لنحو عشرين سنة بعد تخرجي في الجامعة)، وبروفيسور عون الشريف قاسم الذي تولى لاحقا منصب وزير الشؤون الدينية والأوقاف، فرغم تخصصه في الشعر الأموي فإنه كان عالما فقيها ولعل أشهر وأهم مؤلفاته هو «قاموس العامية السودانية» وكان مدير الجامعة في زماننا البروفيسور النذير دفع الله الذي اكتشف العديد من الآفات التي تصيب الحيوانات ونال عضوية 15 هيئة دولية ولقب أبو الطب البيطري و«مان أوف إكسلانس man of excellence من الاتحاد العالمي للجامعات.
كم أحزن لطلاب جامعتي تلك في هذا الزمان، فمعظم أساتذتهم زغب الحواصل، يتعلمون الحلاقة على رؤوسهم، بعد أن طفش منها إلى الخارج معظم ذوي الخبرات بعد أن صار الولاء للحكومة هو الذي يحدد من يكون العميد ومن يكون المدير بل حتى من ينال مسمى «مساعد تدريس»، والمصيبة الأكبر هي ظاهرة «محاضر الشنطة» على وزن تاجر الشنطة، ولهذا تجد في الجامعات السودانية التي تناسلت وتكاثرت وبائيا أن نسبة عالية من المحاضرين فيها بارت تايم/ نصف دوام، فلأن الأستاذ الجامعي لا يجد التقدير المادي فلا حيلة له سوى العمل في أكثر من جامعة فينهي محاضرته هنا ويحمل الشنطة ويمتطي سيارته المكعكعة أو تلك السيارات التي نسميها «أمجاد»، رغم أن الذي بينها والمجد كالذي بين الثرى والثريا، متجها إلى جامعة أخرى، ومن هذه إلى جامعة ثالثة، وفي بلد كالسودان نهار شتائه «صيفي» يكون دم مثل ذلك المحاضر يغلي بعد انتصاف النهار فيصيح في كل طالب يتوجه إليه بسؤال: اسكت يا حمار!! والله لو وجه محاضر في زماننا شتيمة شخصية لطالب لما تركه اتحاد الطلاب يكمل محاضرته بل يخرج من القاعة إلى البيت نهائيا (طبعا لم يحدث ذلك قط لأنه ما من محاضر كان يشتم طالبا ولا من طالب كان يسيء الأدب مع محاضر).
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]