جعفر عباس

جامعة فندق متعدد النجوم

[JUSTIFY]
جامعة فندق متعدد النجوم

في سنتنا الأولى في جامعة الخرطوم، كانت خدمات الطعام فندقية حتى بمعايير الفندقة في القرن الحادي والعشرين، كنا مثلا في وجبة الفطور ندخل قاعات الطعام ونجد فيها فقط شوربة ولبن وزبادي، أما الـ«مين كورس» أي الوجبة الرئيسية، فقد كان من حق كل واحد منا ان يطلب ما يشتهي مما هو متاح: بيض مسلوق أو مقلي أو نصف استواء أو «عيون» (هذه تسمية شاعرية ودقيقة لإعداد بيضتين أو أكثر بحيث يبقى الصفار كتلة متماسكة وسط البياض الناصع) أو كبدة، وطبعا ولازم وحتما في أي فطور سوداني من وجود الفول والعدس، ولحسن حظنا كان اختراع الكسترد (يحذف معظم العرب الدال التي في آخر الكلمة لأنها ساكنة مثل الدال واللسان العربي لا يقبل التقاء الساكنين ومن هنا صرنا نقول «كستر»)، ولم يكن الكستر يظهر على موائد بيوتنا إلا للشديد القوي، وهو وجود ضيف «يستاهل»، وحتى في تلك الأحوال كان لا بد من وجود الرز المفلفل في المائدة، وعند الفراغ من الوجبة الرئيسية والشروع في «التحلية» كان يتم صب الكسترد على الرز وخلطهما معا فتزداد كميته وخاصة ان الرز في حد ذاته كان يعتبر «تحلية»، وإلى يومنا هذا فنحن شعب «رغيفي» بعكس الشعوب «الرزية»، التي من حولنا، فالخبز عندنا هو سيد المائدة بينما الخليجيون مثلا يعتقدون أن أي وجبة بدون رز لا تستحق مسمى وجبة ولهذا يسمون الرز «عيش».
المهم أن الحكومة لم تقصر معنا في جامعة الخرطوم، ولم تكن هناك وجبة غداء تخلو من «شيء حلو» تختتم به الاستطعام، ولكن وكما ذكرت في مقال سابق فقد كانت وجبة الغداء يوم الأربعاء هي التي لا يفوتها أحد، فلو سقط طالب مغمى عليه في العاشرة صباحا من ذلك اليوم ونقلوه إلى العناية الفائقة (لم تكن بالمستشفيات وقتها أقسام بتلك التسمية ومع هذا كانت العناية بالمرضى فائقة في جميع العيادات والأقسام) وأفاق بعدها بساعتين وقالوا له إنه بحاجة إلى جراحة عاجلة في القلب، لقال لهم: بعد الغداء.. أرجعوني إلى الجامعة الآن وإن شاء الله أكون معكم الساعة الثالثة عصرا، فقد كان يوم الأربعاء هو يوم البقلاوة التي نسميها في السودان باسطة (نقلا عن باستا pasta) الإفرنجية، وكان مصدرها مخبز بابا كوستا الذي كنا نغشاه أحيانا فقط لشراء رغيفة خبز ونأكلها وكأنها آخر زادنا في الدنيا من فرط حلاوتها. ولم يكن السودان وقتها قد عرف «الجيلي»، وحتى بعد أن عرفه الناس كانت بعض القبائل تعتقد أنه لا يليق بالرجل المحترم أن يأكل شيئا مائعا يتراقص حتى قبل أن تلمسه بالملعقة، ولهذا كان الجيلي هو الحلوى الوحيدة التي لم تكن في قائمة طعامنا في الجامعة، وبعد أن اكتشفت الجيلي وذقته صار يشكل بالنسبة لي حافزا إضافيا كي أكمل تعليمي الجامعي وأدخل الحياة العملية لأشتري الجيلي بالكيلو وآخذ كفايتي منه، الغريب في الأمر هو أن جيلنا عرف الكريم كراميل قبل أن يعرف الجيلي، وكانت أمي تجيد صناعته، وذات يوم دعاني فاعل خير إلى غداء في مطعم كان يحمل اسم الواحة (خلف سينما كوليزيوم) وذقت كريم كراميل حاجة تانية خالص، وقد حققت أمنية حياتي وأخذت كفايتي من الجيلي ولكنني مازلت ضعيفا أمام الكريم كراميل، وكم سعدت بعد أن عرفت الآيسكريم الحقيقي، بوجود صنف منه بطعم الكراميل، ولكن الغريب في الأمر هو أنني اكتشفت أن الكريم كراميل الذي كانت تصنعه أمي أشهى من الصنف الجاهز المعلب، وهكذا صرت كلما ذقت تلك الحلوى مصنوعة منزليا أتذكر أمي وأدعو الله أن يجعل مثواها أعلى وأحلى الجنان.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]