وتعلق قلبي الخرطوم بحري

تمثل الخرطوم بحري الضلع الأصغر في العاصمة السودانية، بل جاءت إضافة للضلعين الآخرين: الخرطوم التي صارت عاصمة خلال حقبة الحكم التركي للسودان، وأم درمان التي اتخذها الإمام محمد أحمد المهدي عاصمة لدولته (أول دولة تنال استقلالها من الاستعمار في إفريقيا والشرق العربي في التاريخ الحديث، عبر ثورة وطنية مسلحة)، وصارت تلك المدينة تعرف اليوم باسم «بحري»، فقط، وكان جيل الآباء والأمهات يسميها «الحلفايا»، مما يؤكد أن الحلفايا أو بالأحرى «حلفاية الملوك» أكثر عراقة من بحري نفسها حتى ولو صار الناس يعتبرونها اليوم ضاحية من ضواحي بحري.
وفي السودان معتقد شائع بأن الإنسان يكون متعلقا بالمكان الذي تدفن فيه سرَّته فور ولادته (في السودان نسمي السرة «صُرّة»، ويقول الواحد فينا للطبيب عندي ألم في البطن أسفل «الصُرّة».. على كيفنا، ونقول شمش وليس شمس ونقول معلقة بفتح الميم وتسكين العين بدلا من ملعقة، كما على كيف الخليجيين ويسمون الدجاجة دياية وابو ظبي أبو ضبي).. المهم نرجع لموضوع السرة وأقول إن سرتي مدفونة في بيت في الشارع المؤدي إلى فندق قصر الصداقة (حديقة البلدية سابقا) في «حلة حمد» في بحري، وهو البيت الذي سحبت فيه داية/ قابلة لا تحمل ترخيصا رجلي فقمت بهبوط اضطراري على الدنيا، وكانت أمهاتنا وما تزال بعض الأمهات في السودان يحرصن على دفن سرة كل مولود في بيت العائلة أو حيث يولد، ربما باعتقاد أن في ذلك حماية للمولود من الشياطين والحسد والعين، وبغض النظر عن صحة أو خطأ هذا الاعتقاد، فإن السرة جزء صغير عزيز من الأم والمولود ومن ثم فالمكان اللائق لدفنه هو فناء البيت الذي يشهد الولادة، أما في آخر الزمن هذا فإن السرة والمشيمة يتم التخلص منهما برميهما في سلة الزبالة في المستشفيات، وبما أن معظم المستشفيات في العالم العربي تتخلص من نفاياتها كيفما اتفق، فإنك تجد بداخلها وحولها قططا سمينة تتغذى على المشيمات والزوائد الدودية واللوزات.
المهم، إنني ومنذ التحاقي بالمدرسة الثانوية صرت بحراويا متعصبا، وما زلت أحب هذه المدينة، وفور عبوري الجسور إليها قادما من أم درمان أو الخرطوم أحس أنني وصلت «بيتي»، فأقاربي من الدرجة الأولى كلهم كانوا في بحري، وهي مدينة شابة ولدت بعد دخول البريطانيين السودان عام 1899 بسنوات، حيث جعلوا من شاطئها ثكنة لجنودهم، ثم جعلوها الميناء النهري الأساسي في السودان، والنقل النهري في السودان قام على أكتاف أهلي النوبيين، ومن ثم كان النوبيون أول مجموعة سكانية تقيم في بحري وما زالت أحياؤها الرئيسية تحمل أسماء نوبية (الدناقلة شمال والدناقلة جنوب و«حِلة حمد» على اسم الفقيه النوبي حمد ود أم مريوم وحلة خوجلي على الفقيه النوبي خوجلي عبدالرحمن الشهير بـ «أبو الجاز»، وهو عالم نوبي هاجر أهله إلى جزيرة توتي ثم عبر النيل وأقام مسجدا في بحري فصار هناك حي كبير يحمل اسمه إلى يومنا هذا)، وكان النوبيون وإلى عهد قريب لا يساكنون ولا يجاورون عرب السودان داخل المدن الكبيرة، ولم يكن ذلك من باب العصبية القبلية كما يحسب البعض (فالنوبيون شعب تخطى القبلية قبل مئات السنين وعرفوا الدولة المستقرة لآلاف السنين)، ولكن بسبب حاجز اللغة، وإلى يومنا هذا ما زالت النكات تطرح في الأسواق يوميا حول تذكيرنا للمؤنث والعكس وعجزنا عن نطق معظم «هروف اللقة الأربية بتريقة سهيهة».. طيب على إيه: هلينا نسكن مع بأد (بعض) وبلاش مسهرة بتاء أراب.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]