اليهود في السودان (5) الذين ذهبوا إلى إسرائيل ، هل إنقطعت صلتهم بالسودان ؟؟!
كيف تعايشوا مع المجتمع السوداني .. والذين ذهبوا إلى اسرائيل ، هل انقطعت صلتهم بالسودان ؟؟!
بعضهم اندمج وذاب بالكامل .. وآخرون جنّدوا شبابهم لـ«الصهيونية»..!
قد يستغرب المرء، إذ عرف أن اليهود- وليس الصهاينة- في المجتمعات الغربية.. مثل المسلمين، يتمسكون بقيمهم الدينية..
فعلى سبيل المثال، فإن اليهود في انجلترا، واستراليا.. يتمسكون جداً بـ«اللحمة الحلال».. فيسألون ويتابعون حركة الذبيح، من المذابح وحتى الجزارة..!.
وهُم كذلك، يتمسكون بتقاليد دينية تمنع مفاهيم «إختلاط الأولاد والبنات»..
بيد أنهم يربون أولادهم وبناتهم على سلوك التزاوج وفق طقوس الدين اليهودي..
ويصعب جداً أن نجد شاباً يهودياً، يعيش حياة الصديقة- كزوجة Girl Friend، كما هو سائد في الغرب..
* علة واحدة
وإن كانت هناك علة مشتركة بين يهود الدين ويهود السياسة – وأعني الصهاينة – فهو التمسك والتعصب لما يسمونه «أرض الميعاد»..
رغم أن هناك يهوداً، يعارضون السياسات الصهيونية، ويؤيدون الحق الفلسطيني في الحياة والسيادة..
* الحقيقة
إنّ اليهود الذين حاولوا التعايش في الدول العربية، مع الإحتفاظ بخصوصيتهم.. وجدوا أنفسهم في عُزلة..
لأن الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، ما كان يتحمل حياداً.. خاصة وأن تاريخ اليهود في ظل الدولة الإسلامية، مليء بالمؤامرات والدسائس.. وأن التاريخ نفسه، دلل على الإصطدام بين أهل هذه الديانة، والديانات الأخرى.. وبينها وبين المجتمعات المدنية.. ولعل المحرقة النازية لهتلر، كان دليلاً بائناً على صدق ما أقول..
* في السودان
كان الوضع مختلفاً.. فاليهود الذين هاجروا إلى السودان في أواخر القرن التاسع عشر.. أتوا، بعد تمحيص ودراسة..
كانت الدراسات القديمة، بعد رحلة الرحالة اليمني اليهودي صالح روبين، والذي زار السودان في القرن السادس عشر «في فترة دولة الفونج».. كانت مرجعاً مهماً، استفاد منه اليهود، الذين تزايدت هجراتهم، بعد تلك الحقبة..
* يهود ذابوا
أما الشطر الثاني، فقد انصهر في المجتمع السوداني..
بل إن شخصيات سودانية مرموقة، أقدمت على التزاوج والتداخل الإجتماعي..
فكان ثمرة هذا الزواج أبناء وبنات، يعتزون بسودانيتهم، ويتمسكون بقيم مجتمعهم..
لقد تسودنوا تماماً.. وكانوا نموذجاً رفيعاً لخصال العلم والكرم والأدب والتسامح.. وكل قيم الخير السودانية..
ولعل الزواج الأشهر والذي أثمر كل المعاني السودانية العظيمة المذكورة.. كان للسيد محمد الفضل، أول مدير عام للسكك الحديد.. وهو خال فاطمة أحمد إبراهيم، وصلاح أحمد إبراهيم..
وصلاح أحمد إبراهيم هو الدبلوماسي المرموق.. والشاعر الكبير.. إذ تغنى الفنان المعروف حمد الريح، بأروع أغانيه «يا مريا»..
* حكاية «يا مريا»
الرواية تقول إن «مريا»، والتي نظم الشاعر الراحل أحمد إبراهيم، قصديته الشهيرة فيها، هي مريا مارينو الكساندرو… من الجالية اليونانية، والتي كانت تعيش بالسودان.. ولهم منزل بأم درمان..!.
حضروا إلى السودان عام 1920، وتوفى والدهم عام 1964.. وقد كان يعمل بالجيش الانجليزي.. ثم مع القنصل البريطاني، حتى تقاعد للمعاش..
وأُمها جانيت جورج سلمون.. وأخوانها جوزيف، ألبرت، الكساندرا وماريو.. والأخير دخل الاسلام، وسمى نفسه محمد شريف… بجانب اسبيرو، والذي توفى في حادث حركة بصينية بري..
المهم.. أن مريا كانت حسناء… جمالها آخاذ ومُلفت… لفتت نظر الكثيرين…
المرهفون دائماً ما يترجمون أحاسيسهم شعراً ونثراً… والشاعر الكبير صلاح أحمد إبراهيم، كان مرهفاً.. فنظم رائعة حمد الريح: «يا مريا»، والتي تقول في مطلعها:
يا مريا
ليت لي أزميل فدياس وروحا عبقرية
وأمامي تل مرمر
لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقايسك
تمثالا مكبر
وجعلت الشعر كالشلال
بعض يلزم الكتف وبعض يتبعثر
وعلى الأهداب ليل يتعثر
وعلى الأجفان لغز لا يفسر
وعلى الخدين نور يتكسر
وعلى الأسنان سكر
وفما كالأسد الجوعان زمجر
* آل اسرائيل
ولعل العائلة الأشهر، والتي انصهرت مع أهل أم درمان.. وتبوتقت في المجتمع السوداني.. ومعروف عنها تمسكها بالإسلام، بتدين السودانيين الفطري، وليس الإيدولوجي.. كانوا «آل اسرائيل».. ولعلي هنا أقتبس- بالنص- ما أورده الكاتب السوداني شوقي إبراهيم بدري، في كتابه «حكاوي أم درمان»، والذي تحدث فيه عن العائلات اليهودية المندمجة في الحياة السودانية.. ووصفهم بأنهم قدموا تضحيات كبيرة مقدرة من أجل السودان..
وذهب بدري إلى أبعد من ذلك، حيث عبر عنهم بالقول: «كانوا في عزم الأسود، يفيضون وطنية ورجولة».
* تأبين
وحتى اليهود الذين ذهبوا إلى إسرائيل.. بحسب قناعاتهم.. لم ينسوا الفترة التي عاشوها في السودان..
لقد كانت دهشة الحاضرين كبيرة، حينما شارك يهودي يقيم في تل أبيب.. وهو الياهو سولومون ملكا.. في حفل تأبين الأستاذ الكبير المحامي الراحل محمود حاج الشيخ.. حيث بعث ملكا ببرقية تعزية.. مشيراً فيها إلى إعتزازه بذكرى الوطن الذي عاش فيه.. وناعياً رمز من رموز المجتمع السوداني.. وهو الأستاذ محمود حاج الشيخ..
* الواقع
إن اليهود الذين حافظوا على خصوصيتهم.. هؤلاء كانوا يعتبرون السودان محطة إلى دولتهم إسرائيل..
ومعروف أن الياهو كان يزور فلسطين، في ظل الإحتلال البريطاني.. في الثلاثينيات، من القرن الماضي..
* الصهيونية
ولكن، من المؤكد، أن طائفة من يهود السودان.. وأعني بها تلك التي آثرت الإحتفاظ بالخصوصية.. بل وتنميتها وحمايتها داخل المجتمع السوداني.. بحُكم تقليدها الانتقالي..
هذه الطائفة، دفعت بشبابها إلى الإنضمام لمنظمات صهيونية.. وقد اعترف ملكا بذلك، في كتابه، «أطفال يعقوب في بقعة المهدي».. والذي قام الكاتب الصحفي الأستاذ «مكي أبو قرجة» بترجمته من الإنجليزية إلى العربية..
اعترف ملكا بأنه «عاش حياته من أجل الشعب اليهودي».. بيد أنه- أي ملكا- لم يتناول في كتابه ذاك، فترات النضال الوطني في السودان، والتي عاش في حقبتها، سولومون ملكا، نفسه..!
عادل سيد أحمد – صحيفة الوطن السودانية