يا حليلك يا سودان
كم أنا مشتاق إلى السودان القديم، نعم لم استخدم الهاتف للمرة الأولى إلا وعمري نحو 17 سنة، ولم أركب طائرة إلا بعد أن تجاوزت الخامسة والعشرين، وكان ذلك على حساب الحكومة، مرافقا لأخي عبد الله لعلاجه من علة مزمنة في عموده الفقري، وتحملت وزارة المالية نفقات السفر والعلاج والسكن والإعاشة في القاهرة، والمرة الثانية التي ركبت فيها الطائرة كان في سفرى إلى لندن للدارسة، وكان كل شيء أيضا على نفقة الدولة، وبما أنني كنت وقتها مدرسا بالمرحلة الثانوية أتقاضى راتبا لا يقل عن سبعين جنيها، فقد كان من حقي تحويل جزء من راتبي إلى لندن، وتكفلت وزارة التربية بأن تحول لي 40 جنيها من راتبي شهريا إلى بريطانيا فتتحول عند تسلمي لها إلى قرابة 80 جنيها استرلينيا، يعني صاحبكم كان «لورد»، وقضيت عاما دراسيا واحدا في لندن، وعدت منها وأنا جاهز «مما جميعه» للزواج، فحتى الإعانة التي كنا نتقاضاها في لندن نظير السكن والطعام والتنقل كانت تفيض على حاجتنا الفعلية، فتضخمت مدخراتي، بل وبصراحة كانت تلك أول مرة في حياتي أمارس فيها الادخار، بمعنى أنني كنت قبلها أضع راتبي في جيب بنطلوني وأسحب منه المرة تلو الأخرى، إلى أن يأتي يوم تخرج فيه اليد «فاضية» من جيب البنطلون، ولم يكن في ذلك بأس، بل كنت أتوجه إلى الصرّاف/ أمين الخزينة في وزارة التربية واسمه عوض وأقول له: عايز راتب الشهر التالي، وبدون كاني ماني، كان يسجل اسمي في قائمة ما ويعطيني الراتب كاملا.
ولي مع عوض هذا تجربة لن تفارق ذاكرتي حتى تفارقني ذاكرتي نهائيا، فقد بلغني من صديق في جهاز الأمن (خلال فترة حكم نميري)، ذات شهر أن الجهاز ينظر جدِّيّا في أمر اعتقالي، فتوجهت إلى عوض وكان ذلك بعد أن تقاضيت راتب الشهر الفائت بنحو أسبوع،، وقلت له: شوف يا صاحبي، محتمل جدا يعتقلوني خلال أيام، ولا أعرف كم شهرا سأقضي في السجن، وعايز راتب شهر مقدما، وبدون تردد أخرج ورقة وكتب فيها شيئا وناولني راتب ثلاثة أشهر، فقلت له إن راتب شهر واحد يغطي التزاماتي قبل دخولي السجن فقال لي: يا درويش، المعتقل يتقاضى راتبه ناقصا علاوة «غلاء المعيشة»، ولو اعتقلوك بعد خمس دقائق فإنك تكون قد تقاضيت راتبك بالكامل لثلاثة أشهر «وخلي الباقي عليّ».
وسبحان الله يأخذ الزمن دورته، ويأتي يوم تكتمل فيه اجراءات ترقيتي التي تأخرت بسبب البيروقراطية، ولم نكن نتضايق من حدوث مثل ذلك التقصير لأن من ينال الترقية بأثر رجعي كان يتسلم نقدا الفرق بين الراتبين القديم والجديد دفعة واحدة اعتبارا من تاريخ استحقاق الترقية، وليس من تاريخ اكتمال اجراءاتها، وذهبت إلى عوض لتسلم مبلغ يناهز ال150 جنيها هي المتأخرات «الفروقات»، وعدت إلى البيت واكتشفت أن عوض أعطاني نحو 80 جنيها فوق ما استحق، وكنت اعرف انه يقيم في مكان ما من حي «الشعبية» في الخرطوم بحري وبعد جهد طويل عثرت على بيته، ولكن زوجته التي أبلغتها بأمر الخطأ الذي وقع فيه عوض، قالت إنه على غير عادته لم يعد إلى البيت، و«وربما المسكين جالس الآن أمام الخزينة يضرب أخماسا في أسداس».. وبعد طول انتظار قلت لزوجته: خلي الفلوس معك، فرفضت متعللة بـ«حد الله بيني وبين قروش الحكومة» وانصرفت وعدت إلى بيت عوض في المساء وقلت له: معليش تسببت في حبسك في المكتب بتسلمي مبلغا لا يخصني، فقال لي كلاما اعتبرته نيشانا على قلبي: يا عزيزي تأخرت بسبب اجتماع طارئ، واكتشفت أنني سلمتك مبلغا كبيرا فور مغادرتك مكتبي، ولم يكن لدي أدنى شك في أنك سترد لي المبلغ.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]