جعفر عباس

ما أجمل حليب ميمو ومعيزو


[JUSTIFY]
ما أجمل حليب ميمو ومعيزو

لابد من التذكير بين الحين والآخر بأن هذه السلسلة من المقالات، تهدف إلى المقارنة بين جيلي وعصره والجيل المعاصر أو بالأحرى المعصور، فمن المعتقدات الشائعة أن كل جيل جديد يعيش حياة أفضل من حياة جيل الآباء والأمهات، ولكنني أحاول هنا إثبات أن ذلك ليس صحيحا، وسيصيب هذا الكلام الشباب المعاصر بالذهول والدهشة فيتساءلون: كيف لجيل لم يعرف حتى الأتاري والنينتندو إلا بعد أن صارت له ذرية أن يتباهى بأنه عاش حياة حافلة بالمرح والفرح؟ نعم لم نسمع بالنينتندو ولا بلبن/حليب نيدو، وعشنا في زمان كان فيه الكبار فقط يتبادلون رسائل الواتساب، وكانت رسالة الواتساب تصل إلى الطرف الثاني بعد 24 إلى 48 ساعة، وكان اسمها البرقية التلغرافية التي تتكون من «كلمة وغطاها»: رزقنا ببنت أسميناها زينب.. نشاطركم الأحزان وللفقيد الرحمة.. مبروك ختان الأنجال.. في انتظار مصاريف العيد.. البقرة/الناقة/ المعزة ولدت بالسلامة!! وهذا النوع من الوتسبة كان يتطلب الذهاب إلى مكتب البريد وتسليم النص في نافذة معينة وخلال دقائق كان موظف التلغراف يجلس على جهاز يحمل اسم مخترعه «مورس»، ويضغط على زر يصدر تكتكة تتحول في الجهة المقصودة إلى حروف، ولم يكن هناك تلغراف يخلو من خطأ إملائي/ لغوي: رزقنا ببن اسميناها زينة.. مبروك ختان الجمال… نشاطركم الأحزان وللفقيد اللحمة.. في انتظار مصارين العيد، ولكن كان اللبيب يفهم بالإشارة
يتباهى جيل الشباب بحليب النيدو البودرة؟ نحن رضعنا حليب ميمو المبستر ربانيا من أمهاتنا، وشربنا الشاي بحليب معيزو الطازج، لأن الماعز كان يعيش معنا في نفس الحوش، ولم يكن هناك بيت في السودان النيلي يستخدم لبن الأبقار في الشاي، بل فقط لصنع السمن البلدي، ويتباهى جيل الشباب بالـ«إكس بوكس» و«البلاي ستيشن» والألعاب الالكترونية باستخدام الكمبيوتر، وبأنه إذا أحس بالجوع تناول سندويتشا يتم إعداده في البيت أو شراؤه من محل ما في السوق، وبالمقابل كان جيلنا يأكل وجبات تصنع قبل مواعيد أكلها بدقائق، ولا يمارس أي لعبة لا تتطلب جهدا كبيرا ولياقة بدنية عالية، فكل ألعابنا كانت تتطلب الجري والدفع واللكز والكر والفر، وكنا نواجه صعوبات جمة في صنع كرة الشراب، وكلما فكرنا في صناعة واحدة منها شكّلنا مجلس شورى: أين نجد جوربا (شرّابا) قديما؟ وقد يعقد ذلك المجلس عدة جلسات دون أن ينجح في تحديد مصدر للشراب المطلوب، وبالتالي كنا ننتظر موسم إجازات أبناء البلد الذين يعملون في الخدمة المدنية في المدن الكبيرة، لأنهم وحدهم من كان يمارس ترف استخدام الشراب مع الحذاء، ونكلف هذا وذاك: إخوانكم وصلوا من الخرطوم ولازم تسرقوا منهم شرابات، وفي موسم كهذا كانت تجتمع لدينا عدة شرابات تكفينا لصنع أكثر من كرة قماشية واحدة، وكم من أفندي جاءنا لقضاء الإجازة مع الأهل واكتشف أن لديه فردة شراب أسود واحدة (كانت جميع الجوارب في ذلك الزمان سوداء لأن جميع الأحذية المستوردة التي كانت تستأهل الجوارب كانت سوداء لأن البشرية لم تكن قد فبركت الألوان ذات المسميات العجيبة: بيج وتركواز ومارون وأخضر ليموني وبصلي وبني محروق وبني «نص استوا»)
وكان من الهوايات المجدية عندنا في شمال السودان صيد الطيور الزرزور وأكلها مشوية في نار توقد في العراء، علما بأن الزرزور لا يزيد في الوزن بكامل هيئته على عشرة جرامات، وكنا نتسلق النخيل بعد موسم حصاد التمر لنلتقط التمر المحشور بين الـ«أَبَج» وهو جذوع السعف التي تبقى بعد أن تطول النخلة ويستخدمها المتسلق لإسناد القدم ومقابض لليد، وكنا نقايض التمر الذي نجمعه بالحلوى أو نبيعه بالكاش الذي يعيننا على البحبحة في الأعياد.

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]