جعفر عباس

كيف صار أبو الجعافر «كافر»


[JUSTIFY]
كيف صار أبو الجعافر «كافر»

تفتحت عيوننا وعقولنا والسودان بلد مستقل، والنقاش بين المعارضة والحكومة منقول عبر الصحف والإذاعة، ويا ما استمعنا للمرشحين في الانتخابات البرلمانية يخاطبون الجماهير في الساحات المكشوفة، ولم نسمع مرشحا أو نائبا برلمانيا، يسيء إلى الخصوم حتى تلميحا، ثم حدث أول انقلاب عسكري بعد أقل من سنتين من نيل البلاد استقلالها، فأشعل ذلك النضال السري والعلني لاستعادة الحكم الديمقراطي، حتى جماهير البسطاء والتي كانت ولاءاتها الحزبية تقوم على اعتبارات عاطفية أكثر منها سياسية، لم تعرف المهاترات والعنف خلال مواكب التأييد والتنديد، ولأن الأمية كانت مستفحلة فقد كان لا بد من اللجوء الى «ديمقراطية الشجرة والبقرة»، اي إعطاء كل مرشح رمزا انتخابيا: فانوس، أو شجرة أو بقرة أو عصفور من فصيلة الزرور او الفأس أو قندول الذرة، فكانت هتافات التأييد لكل مرشح تعمد لاستخدام رمزه الانتخابي لتأكيد تميزه، فإذا كان موكب ما يؤيد مرشحا رمزه الزرزور ضد آخر رمزه القندول كنت تسمع هتافات: الزرزور أكل القندول، ومؤيدو المرشح الذي رمزه فأس: اخترنا الفاس لقطع الرأس، وعموما فالمظاهرات في كل الدول العربية تميل الى هتافات مسجوعة وبالتالي فالتركيز ليس على المضمون السياسي الذي من أجله خرجت المسيرة، بل على الكلام المنغوم، مثل الذي سمعناه من مصريين خلال العام الجاري (2014): السيسي رئيسي.. نحن نؤيد الشرعية/ مرسي رئيسي ميّه الميّه، فلا الأول يشرح لماذا كيف السيسي رئيسه قبل بدء التصويت، ولا الثاني يوضح لماذا مرسي رئيسه 100% وليس 97% مثلا.
ولسبب ما كنت شغوفا بالقراءة منذ سن مبكرة، وقرأت جميع الكتب التي كانت في مكتبة مدرستنا الابتدائية (نعم كانت بالمدارس الابتدائية كتب «أدب الأطفال»)، وهكذا ورغم أن لغتي العربية الدارجة كانت مكسرة بسبب عجمة اللسان، لأنني كنت ناطقا باللغة النوبية، فإن لغتي الفصحى كانت سليمة إلى حد كبير، وفي المرحلة المتوسطة كنت قد قرأت «الأيام» لطه حسين وعبقريات العقاد، بل حتى كتب الأزهري المصري خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، و«هذا أو الطوفان»، وهما كتابان أثارا جدلا شديدا في كل أرجاء العالم الاسلامي بعد أن اتهمت جهات عديدة المؤلف بالزندقة والهرطقة، وكانت لدينا في السودان صحافة محترمة وكنت حريصا على متابعة ما يكتب فيها وبالتالي أصبحت قادرا على تشكيل رؤية سياسية خاصة بي، ولم يعد «ينضحك» عليّ، بالخطب والبيانات السياسية.
ورغم أنني سليل فقهاء وعلماء دين أماجد فلم أنج من الاتهام بالكفر، لأنني كنت استنكر أن فلان وعلان من أهل البركة، وكان جميع أهل منطقتنا ينتمون إلى طائفة «الختمية»، فإذا جاء أحد من سلالة عائلة «الختم» لزيارة بلدتنا كانت النساء يتمسحن بعرق حماره، ويتقاتل الناس كي يفوزوا بنقطة من ماء الإبريق الذي استخدمه للوضوء، وكان صاحبنا يجلس في دار يتم تهيئتها خصيصا له لاستقبال المريدين فيصطف الناس لمقابلته: اللي عنده اسهال/ إمساك/ عقم/ جيوب أنفية، فيضع يده المبروكة على جبهة المريض، ويتمتم ببعض العبارات ثم يـ«تف» عليه، أو يعطيه ورقة فيها شخابيط لـ«يتبخّر» بها، بل كنت تجد هنا وهناك نخلة مخصصة لـ«سيدي»، ورغم أن الصبية كانوا يمارسون السطو على التمر الرطب في غفلة من أصحاب النخيل، فإنهم لم يكونوا يقتربون من نخيل «سيدي»، ولكنني كنت الوحيد الذي يسطو على نخيل «سيدي»، ولو صاح أحدهم: يا ويلك من غضب سيدي، فكنت أرد عليه: هو سيدك أنت وليس سيدي أنا وبالتالي ليس في استطاعته أن يلحق بي أذى، ولما انتشر خبر عدم اعترافي ببركات «الأسياد» تم تكفيري، ولحسن حظي كان الناس يجهلون أمور دينهم ولم يطبقوا علي حد الردّة

[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]