عبد الجليل سليمان

خبراء منداحين


[JUSTIFY]
خبراء منداحين

ظللت ولسنوات أرصد و(أترصد) جُل المُداخلات والإفادات التي يُدلى بها خبراء سودانيون لأجهزة الإعلام المحلية والخارجية في مجالات مختلفة (كل في مجاله)، ثم أقارنها وأقيسها بأخرى مماثلة من لدن رصفائهم من دول أخرى، فـ (ألقى الفرق شاسع).
وأول أمس، كنت أستمع لخبير وأستاذ جامعي مُتخصص في علم الاجتماع والانثروبولجي، يتحدث لإحدى إذاعات الـ (إف أم)، عن موضوعات معقدة وشائكة مثل مسألة الهوية السودانية بطريقة مختزلة ومبتسرة ولغة تبدو فرط هشاشتها وكأنها تستخدم لـ (ونسة جنب ست شاي)، ورغم أن السيد الخبير المشار إليه أعلاه لم يقل شيئاً ذا بال أو غير ذي بال، إلاّ أنه ظل يطالب الحكومة بأن تقرب العلماء من بلاطها، وأن تهتم بهم وتوليهم رعايتها الكريمة، وأنها لم تفعل ذلك فإن على الوطن السلام، وأنه سيتشظى وينقسم، وأن معارك طاحنة ستدور بين ظهرانيه.
ربما كان استشراف الرجل لمستقبل السودان من خلال الواقع الماثل صحيحاً إلى حد ما، لكنه لم يصل إليه وفقاً لدراسات محكمة، بل كان ينثر أفكاره بتلك اللغة الرثة عبر الأثير وكأنه (سمسار في الكرين).
قبله بيوم واحد، تحدث أحد عتاة المثقفين لإحدى الإذاعات عن الصحافة الاجتماعية، فلامها لوماً شديداً، وطالبها بالتخلي عن أخبار الجريمة، وأنه مطلوب منها كي تكون صحافة اجتماعية حقيقية أن تولي ملف (دارفور) عناية خاصة، فانخلع قلبي!!
من وجهة نظري، أنه لا توجد أصلاً (صحافة اجتماعية)، ليس في السودان فحسب، بل في معظم الدول، وأن المصطلح هذا مصطلح تلفيقي ألبست به صحافة المنوعات والحوادث (حكايات والدار)، وهي صحافة مطلوبة وتعمل في فضائيها (المنوعات والحوادث) بطريقة جيدة وناحجة.
لكن تلبيس الصحيفتين صفة (اجتماعية) هو الذي يجعل ناقديهما يقعون في خطأ مزدوج بداية بالتعريف الخاطئ، وبناءً عليه فإنهم يقيمونهما تقييماً خاطئاً.
فماذا يعني بربكم مُصطلح (صحافة اجتماعية)؟ ومعروف أنه لغوياً منسوب إلى (اجتماع)، وحتى لو افترضنا أنه منسوب إلى مجتمع فينبغي أولاً أن تسمى (صحافة مجتمعية)، ثم إنها ليست كذلك بالمعنى الدقيق، وإنما هي صحافة منوعات بامتياز في حالة حكايات وصحافة جريمة وحوادث في حالة الدار.
آخر الخبراء هو ذاك الذي يطلق عليه الإعلام (خبير وطني)، وهي صفة (غريبة وغامضة) ومخاتلة المعنى، وإلاّ فكيف يكون أحدنا خبيراً في (الوطن) برمته، خبيراً في السكان والزراعة المطرية والثقافات المحلية والغناء الشعبي والغابات الاستوائية والحشائش المدراية والحضارة المروية والسلم الخماسي وأغاني البنات والحركات المسلحة والمناهج التعليمية و…. إلى آخر القائمة (الوطنية)!!
حسناً، بالنسبة لي على الأقل، حتى لو كان أحدنا متخصصاً (أكاديمياً) في مجال محدد، فإنه لا يستحق أن تطلق عليه صفة خبير ما لم تكن لديه القدرة في قول أو إنجاز شيء مختلف عن السائد، وأن يتوسل إلى ذلك لغة دقيقة ومنضبطة، غير متسيبة وسائلة، لذلك فلتكف عنا أجهزة الإعلام مثل هؤلاء الخبراء (المنداحين)، احتراماً لعقولنا.

[/JUSTIFY]

الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي