محمد صديق.. الصحافي الشامل الخلوق

جاءني صوته مساء أول أيام عيد الفطر المبارك هادئاً ورزيناً ووقوراً، كالعهد به مهنئاً ومباركاً بالعيد السعيد. لم يكن يدر بخلدي أن تلك هي المرة الأخيرة التي سأسمع فيها صوته الهامس حين يتكلم والذي يتوافق ويتواقع تماماً مع خطواته المتئدة الوئيدة حين يمشي رغم طوله البائن، فقد كان محمد – رحمه الله – يتحدث بتؤدة (ماهل في الحديث) عند الكلام ويخطو بتمهل عند المسير، لم أره قط عجولاً مستعجلاً، ولم أسمعه قط صائحاً أو صارخاً طوال سنوات مزاملتي له بالغراء صحيفة الصّحافة، بل وبعد ذلك عندما التقيه لماماً في شارع الله أكبر، أو حين نتحادث بالتلفون، لقد كان ذا نفس مطمئنة، وتلك ميزة قل أن تتوفر في زمان اللهث والشفقة و(السربعة) هذا، ولكن رغم كل هذا الهدوء والتمهل الذي يسم سمته العام، والوقار الذي يجلل ملمحه الخارجي، إلا أن داخله كان يمور بالهموم والانفعالات والتفاعلات والتساؤلات في الشؤون العامة كافة، لم يحصر نفسه وهمه واهتماماته في ما أوكل له من عمل صحافي محدد في مجال الاقتصاد، فصار مبلغ علمه وأكبر همه الذي لا يتجاوزه، وإنما كما كان – رحمه الله – متجاوزاً في سماحته وسمح خلقه، كان كذلك متجاوزاً لحدود اختصاصه الصحافي إلى ما عداه من مجالات واختصاصات أخرى، فتجده مثل النحلة يسعى لأن يأخذ من كل مجال حياتي ثمرة، ومن كل فن صحافي رشفة، فقد كان فقيدنا محمد ذا عقل ناقد ومتسائل غير مسلم أو مستسلم لما يرى أو يسمع، إلا بعد الفحص والتمحيص والتدقيق، وكان ذا روح وثابة ومتطلعة، بل ومتحفزة لمزيد من المعرفة والتعلم، ومتطلعة للتطور والارتقاء واكتساب الجديد باستمرار، وتلك من أخص خصوصيات الصحافي الناجح.
هكذا كان الفقيد محمد صديق صحافياً ناجحاً وشاملاً، لم ينكفئ على عمله في القسم الاقتصادي بالصحيفة لا يغادره إلى ما هو غير اقتصادي من معلومات وأحداث ووقائع وفعاليات، لم يكن معنياً فقط بدائرته العملية، بل كان معنياً ومهتماً ومتفاعلاً ومنفعلاً بكل ما يدور حوله من أحداث وقضايا في كل المجالات، فنية كانت أو رياضية أو اجتماعية أو سياسية أو خدمية، فتجده يكتب في الرياضة ويعالج قضاياها برؤية العارف والملم والمتابع، وهكذا يفعل مع الفنون ومع الأحداث والقضايا الاجتماعية والمجتمعية. الخ، ولعل هذه مناسبة نذكر فيها ذلك التحقيق الصحافي الذي أجراه من داخل مستشفى الخرطوم حين كان مرافقاً لوالده المريض وقتها، كان تحقيقاً استقصائياً نموذجياً في هذا الفن الصحافي العصي، فرغم همه الخاص بمرض والده والذي كان كفيلاً بأن لا يجعل اهتمامه ينصرف إلى أي شئء آخر سواه، إلا أن الهم العام وهم الصحافة سيطرا عليه وجعلاه ينتج ذاك التحقيق المميز الذي أثبت به أنه صحافي كامل الدسم تجري الصحافة في دمه.. فارحم اللهم عبدك محمد صديق الذي نشهد له بما نعرف من صفاءٍ ونقاءٍ وسماحةِ أخلاقٍ، ويمتد سؤالنا بالرحمة لجميع فقداء الوسط الصحافي، المدقق اللغوي الضليع عبد المحمود، والصحافية الشابة فاطمة خوجلي والصحافية المجودة نادية مختار، وكل من سبقوهم بالرحيل من دار الفناء إلى دار البقاء ولا نقول في خاتمة هذا الوداع الحزين لكل الراحلين، إلا ما يرضى لله (إنا لله وإنا إليه راجعون).
[/JUSTIFY][/SIZE]بشفافية – صحيفة التغيير
حيدر المكاشفي
