طب وصحة

الوجبات البشرية تطورت لتحافظ على أنواع النمو


[ALIGN=JUSTIFY]نمو أى بنية مهما كانت طبيعتها أو شكلها يعتمد على التغذية. وغالباً ما تكون التغذية على دفعات أو مراحل أو وجبات. فالوجبة هى وسيلة النمو، وهى التغذية على مراحل أو دفعات، ولا يمكن أن تنمو أى بنية دون تغذية.

إن تناول الوجبة هو التغذية وكل بنية كى تنمو يجب أن تتغذى، فالشجرة تتغذى لتنمو، والحيوانات تتغذى لتنمو، والشركة تتغذى لتنمو، والاقتصاد يتغذى لينمو.

وكل وجبة يتم تناولها تحتاج إلى معالجة- هضم وتمثل- لكى يتم استيعابها وضمها إلى البنية التى تناولتها، ففى كل وجبة يتم تناولها تضاف بنيات جديدة إلى البنية التى تناولت الوجبة، لذلك يجب أن يكون لديها القدرة على ضمها أى هضمها وتمثلها و إلا أضرت بها بدل أن تنميها، فكل وجبة يتم تناولها تغير من طبيعة وخصائص البنية التى تناولتها.

وبالنسبة للكائنات الحية وبشكل خاص بالنسبة للإنسان، تنوعت وتطورت الوجبات البشرية لتنوع أنواع النمو، فهناك النمو الجسمي، والنمو الفكري، والنمو الاجتماعي، والنمو الاقتصادي.. .

والتغذية أو تناول الوجبات- بكافة أنواعها- بالنسبة لنا، هو إضافة بنيات جديدة إلى بنيتنا، ولكى نحافظ على خصائص بنيتنا الأساسية يجب أن تكون هذه التغذية ضمن حدود معينة و إلا أدى ذلك إلى تغيير كبير فى طبيعة وخصائص بنيتنا.

وهناك وجبات يكرر الإنسان تناولها كل يوم مثل وجبات الطعام، وهناك وجبات يتم تناولها خلال أشهر أو سنين وتحتاج إلى وقت طويل لهضمها وتمثلها مثل التعلم بكافة أشكاله، وهى وجبات نفسية وفكرية يتم تناولها أو يفرض تناولها، وهذا ناتج عن أن فترة الهضم والتمثل تستغرق وقتاً طويلاً.

والوجبات بالنسبة لنا، بشكل عام يحدث تناولها لذة أو سعادة أو رضا، وهذا لا يمنع أن تكون بعض الوجبات غير لذيذة أو مؤلمة مع أنها ضرورية ومفيدة، مثل الدواء والتعليم الإجباري. وبعض الوجبات هى الواجبات التابعة لنمو بنيات المجتمع الذى ينتمى إليه الفرد وتكون مفروضة عليه و غالباً ما تكون غير مرغوبة.

كما ذكرنا إن أى نمو لبنية نتيجة تناول وجبة يؤدى إلى إخلال فى توازن هذه البنية، و يتطلب معالجته للمحافظة على توازن هذه البنية. وهذا يكون على شكل هضم ومواءمة وتمثل لما تم تناوله، فكل وجبة يتم تناولها يجب أولاً أن تكون غير ضارة أو غير سامة، ويجب هضمها وتمثلها بشكل مناسب يجعلها تنتظم وتتزن ضمن البنية، أو يعاد إخراجها، و إلا أختل توازن تلك البنية. وهذا ما نلاحظه لدى الكائنات الحية فنراها تسعى لتناول وجبات مناسبة لها، وتكون قادرة على هضمها وتمثلها، وتتحاشى تناول المواد الضارة بها، أو التى لا تستطيع هضمها.

وبالنسبة لنا دوافع وغايات تناول الوجبات أصبحت متنوعة، فالوجبة هدفها كما ذكرنا التغذية والنمو وهو الأهم، وأيضاً نحن نسعى لتناول الوجبات الحسية مثل الموسيقى والرقص والغناء وباقى الفنون.

أنواع وجباتنا

تتعدد انواع الوجبات لتشمل:

1_ وجبات تغذية جسمنا الطعام والشراب والهواء

2_ الوجبات الحسية والعاطفية والانفعالية وهى وجبات شبه مفروضة غريزياً فسيولوجياً أو نفسياً، مثل ممارسة الأمومة، وحب الجنس الأخر، وتحقيق المكانة العالية، وهذه أنشأتها الحياة الاجتماعية والظروف ثم صارت غريزية وموروثة اجتماعياً.

3_ الوجبات الاجتماعية وهى وجبات نشأت نتيجة للحياة الاجتماعية مثل الصداقة والعطف، والأخلاق والعقائد، والتملك، والسيطرة، والانتماء بكافة أشكاله

4_ الوجبات الحسية والفكرية وهى تشمل كافة الأنواع السابقة لأنها ترافقها، بالإضافة إلى تذوق كافة أنواع الفنون بما فيها تذوق الأفكار والمعارف، ووجبات اللهو واللعب والمرح، و تشمل كل تذوق للطبيعة وجمالها.

تناول الوجبات

“يعتبر اختيار الطعام عملية معقدة لدى البشر. فهناك أصناف معينة نشعر تجاهها بنفور غريزى وفطري. فالبيرة مثلاُ ذات طعم مر، وأول رشفة منها يجدها الجميع غير طيبة المذاق. لكن على رغم ذلك هناك ضغوط ثقافية تجعلنا نتغلب على هذا النفور الطبيعى لدينا تجاهها، فبعد فترة من الوقت يصبح من الواضح أن مذاقها لا يثير النفور الطبيعى لدينا تجاهها، بل الواقع، أن العكس يمكن أن يكون صحيحاُ. فنحن نجد هنا أن التعود، الذى يتوسط المجتمع فى تدعيمه، على صنف معين من الطعام، يؤدى إلى شعور داخلى بتفضيلهم، وثمة حالة أخرى مماثلة تتعلق بالفلفل الحار “الشطة “، فهناك نفور فطرى تجاه الفلفل الحار لكونه ذا تأثير مهيج. لكن هناك مزايا معينة غذائية ودوائية مرتبطة بالفلفل الحار، وقد يكون له أيضاُ دور فى إحداث نوع من التوازن الانفعالى من حيث كونه مثيراُ. لذلك أخذ الفلفل الحار يدمج فى الثقافة بالتدريج حتى أصبح من مكسبات الطعم الرئيسية فى المطبخ. وأصبح تناول الفلفل الحار كمحسن للطعم، منتشراُ حالياُ فى الثقافات الغربية و أصبح الناس يسعون للحصول عليه لتفضيلهم إياه، على رغم نفورهم من طعمه للوهلة الأولى. كذلك يمكننا الاستعانة بتفضيلنا الفطرى للحلوى لكى نحسن طعم بعض المأكولات، حيث تزيد محليات الطعم من تلذذنا واستحساننا أنواعاُ معينة من المأكولات. وفى مثل هذه الحالات، تتضافر المؤثرات الثقافية مع التأثيرات التى تحدثها تلك الأطعمة فى المخ .

كذلك أيضاُ تؤثر الموانع والتوصيات الثقافية فى ما نتناوله من طعام. فقد يمتنع بعض الناس عن تناول أنواع معينة من اللحوم لأسباب دينية، وقد يتجنب آخرون، لأسباب اجتماعية، تناول كميات كبيرة من الجاتوه أو الأنواع المماثلة من الأطعمة غير الصحية التى لا تتوافق مع نمط الصحة السائد فى ثقافتنا الحالية .ومثل هذه الضغوط الاجتماعية يمكن أن تجعل الناس تقبل على تناول كميات كبيرة من أطعمة غير شهية مثل البقول والحبوب والخضروات الطازجة حتى يرضوا المتطلبات الأخلاقية والمعنوية التى تتعلق بتناول الغذاء، والتى تعنى أيضاُ بتأثير الأغذية فى أجسامنا. وتتدخل فى اختيار الطعام لدى البشر كثير من العوامل الطقوسية التى تشكل جزءاُ من الممارسات الاجتماعية، ومن الاحتفالات التى تصاحب حدوث تغيرات فى الحياة الاجتماعية. ومن الواضح هنا أن مثل تلك العمليات تعتمد أيضاُ على ميكانزمات القشرة الدماغية العليا.

الوجبات الحسية

إن الوجبات الحسية والفنية هى أكثر أنواع الوجبات شيوعاً وانتشاراً الآن، فكافة الفنون وبشكل خاص الموسيقى والأغانى والسينما والتلفزيون.. تلاقى إقبالاً شديداً عليها وعلى تكرار تذوقها.

إن هذا الإقبال على تذوق الفنون تابع لما تحدثه من أحاسيس وانفعالات وأفكار لذيذة ومريحة وجميلة، وتتشابه التأثيرات الحسية لدى غالبية الأفراد. وبوجود غريزة التقليد والمحاكاة فإن أغلب الأفراد يسعون للحصول على نفس الوجبات، فعندما يشاهدون أو يسمعون أو يعرفون إقبال غيرهم على وجبات معينة نراهم يقبلون بدورهم عليها، فتقليعات الملابس، والموسيقى والطعام والشراب… تثبت ذلك.

ويحدث فى الإقبال على الوجبات الفنية دوما تغير و تطور فهو يشتد إلى درجات معينة ثم يبدأ بالتخامد إلى أن يقل بشكل كبير، وعندها يحدث التوجه إلى وجبات جديدة مختلفة، ولكن بعد زمن ينشأ حنين وشوق إلى الوجبات القديمة التى حققت لذة وسعادة- وهذا راجع لخصائص الجهاز العصبي-، فيتم الرجوع إلى هذه الوجبات ويكون تذوقها بشكل مختلف فهى تحدث أحاسيس جديدة خاصة، وتكون شديدة القوة.

وتناول الوجبات الفكرية وما تحدثه من أحاسيس وشعور بالراحة والأمل والسعادة.. منتشر أيضاً بشكل كبير بين الناس، فطقوس العبادة والصلاة والشعائر الدينية والعقائدية تتضمن دوماً وجبات حسية مطلوبة بكثرة.

وتظهر دوماً دوافع ورغبات إلى الوجبات الحسية الجديدة عند الذين لم يعودوا يتذوقوا الوجبات القديمة لأنها لم تعد تمنحهم تلك الأحاسيس التى يرغبونها، فهم يبدعون الوجبات والفنون والأفكار الجديدة التى تناسبهم، فالخطابات و اللقاءات الاجتماعية والسياسة والأدبية والعلمية….، والمؤتمرات والمسابقات الفكرية، وطقوس التكريم……الخ، أصبحت بديلاً للشعائر الدينية والعقائدية عند الكثيرين، فهم يكرمون ويبجلون قدامى المفكرين والعلماء والفنانين، ويتشبهون بهم ويكررون نفس أفكارهم وأحاسيسهم .

خصائص وقدرات التذوق الحسى البشري

الإنسان مزود بخصائص وقدرات حسية هائلة التنوع وأكثر بكثير مما نتصور. فإذا أخذنا الأحاسيس الصوتية كمقياس، نجد أنه يمكن اعتبار كل حاسة بشرية أخرى تشبهها من حيث التنوع الذى يمكن الحصول عليه بالتلاعب بالدرجات و الترددات و الطبيعة.

وكذلك هناك التنوع نتيجة الترابط والجمع والتداخل بين أنواع الحواس، فأحاسيس الطعام والشراب، وأحاسيس الحب، واللمس، والشم، والنظر…. وما تصاحبها من انفعالات متنوعة كثيرة، كلها يمكن العزف عليها مجتمعة فى وقت واحد، كما تعزف الألحان الموسيقية فى اوركسترا وبذلك نكون ما يشبه الأوركسترا التى تعزف أنواع الأحاسيس معاً.

وبالإضافة لذلك هناك الأحاسيس المتطورة والخاصة بالإنسان وحده مثل الأحاسيس الدينية والفلسفية والفكرية، والأحاسيس التى نجمت عن الفنون وبشكل خاص الأدب والسينما.
إن إمكانية التذوق الحسى البشرى بكافة مجالاته بما فيها الأحاسيس المتطورة تمكن الإنسان من تذوق وجبات حسية أوسع وأكثر تنوعاً وغرابة مما نتصور، وهذا ما يجعل الوعى والإدراك البشرى مميزاً عن باقى الكائنات الحية .

الملاحظ أن غالبيتنا يقتصرون أو يتعودون على وجبات حسية معينة وفى مجالات معينة ويدمنون على تناولها، إلى حد يصعب أو يستحيل عليهم تناول وتذوق وجبات أخرى مختلفة عنها، إن بنيتنا الفسيولوجية والعصبية بالإضافة إلى بنيات المجتمع و غيرها من البنيات تفرض علينا وجبات حسية معينة وأيضاً تقيد خياراتنا فى تناول وتذوق الوجبات.

ومع هذا يمكننا أن نوسع مجال وتنوع خيارات تذوقنا، إن الطفل لا يتناول فى أول الأمر إلا الوجبات القادر على تناولها والمقدمة له من قبل مربيه، وهى المفروضة عليه غالباً ولكنه يبقى تابعاً لخيارات مربيه التى تكون تابعة بشكل كبير للمجتمع الذى يعيشون فيه، وبالتالى يتعود عليها ويدمن على تناولها، وكذلك الكبار فمجتمعهم وخصائصهم الفسيولوجية تفرض وترسخ إدمانهم على وجبات معينة من الطعام والشراب والحب ….، والكثير من العادات والشعائر والعلاقات الاجتماعية هى بمثابة وجبات.
لقد توسعت الخيارات المتاحة للإنسان لتناول الوجبات الحسية بشكل هائل وأصبح أمام خيارات واسعة جداً، ومع ذلك فالكثيرون منا محافظون ولا يرغبون ولا يسعون إلى التغيير أو التجديد مع أن المتاح لهم يمكنهم من تذوق أحاسيس لا تقارن من ناحية الجمال واللذة والسعادة بما تعودوا على تناوله من وجبات وأدمنوا عليها .

إذا كان الدافع للوجبة النمو فيجب أن يتم تناولها بشكل مناسب، والمهم فى هذه الحالة تحقيق هضمها وتمثلها بشكل مناسب وبالتالى تحقيق النمو، أما إذا كان الدافع هو تحقيق الأحاسيس كما فى الوجبات الفنية فالمهم هنا القدرات والأسس التى تسمح بهذا التذوق، بالإضافة إلى طريقة التناول المناسبة التى تحقق التأثير الأفضل، والوجبات المراد منها الأحاسيس لا يهم تطابق الأحاسيس أو حتى تشابهها بمن يتذوقوها، المهم إحداث الأحاسيس المرغوبة والجميلة واللذيذة والسعيدة لدى متذوقيها.

هناك عدة عوامل تؤثر على تذوق الوجبات، منها تأثير الآخرين فالوجبة التى يجد الفرد أن الآخرين يرغبون بها ويتلذذون بها تحدث دافعاً له ليتناولها ويتذوقها مثلهم، والعكس صحيح حيث يتحاشى أغلب الناس تناول الوجبات التى يكرهها الآخرون.

وانتشار التقليد والمحاكاة للأطعمة والملبوسات و التقليعات والتصرفات فى اللهو والتسلية والترفيه وفى تذوق الأدب والموسيقى وباقى الفنون، هو مثال على ذلك.
وكذلك يلعب الفكر الشخصى والعام دوراً هاماً فى نشوء الدوافع لتناول وتذوق وجبات معينة، مادية، أو نفسية، أو فكرية، وهناك كما ذكرنا الإعلان كمولد دوافع لتناول وتذوق وجبات معينة.

ولكى يتم تناول الوجبة بشكل مناسب يجب تنسيق هذا التناول :

أولاً، يجب جمع مكونات الوجبة بشكل مناسب يمنع تضارب المواد أو النكهات مع بعضها.
ثانياً، يجب ترتيب تسلسل تناول الوجبة، فلا تقدم المادة إلا فى وقتها المناسب، فمثلاً لا تقدم الحلويات أو الفواكه قبل الحساء.

تأثير الشكل والمضمون والتقليد

إن تأثير الشكل أو التأثيرات الأولية والظاهرة للوجبة وبغض النظر عن مضمونها وتأثيراتها الفعلية على الدافع لتناولها كبير جداً، وهذا ما أدى إلى هذا الاهتمام الكبير بالشكل، فالاهتمام الكبير بالشكل يطغى فى كثير من الأحيان على المضمون.
والكثير من الوجبات لا يمكن الإقبال عليها إذا لم تكن فى شكل مرغوب، وكان لهذا نتائج سلبية فى بعض الأحيان، وهناك أمثلة على ذلك وفى كافة أنواع الوجبات، فالوجبات الغذائية والعاطفية والفكرية إذا لم تقدم بشكل جميل ومقبول فسوف يضعف الإقبال على تناولها حتى وإن كانت مفيدة جداً.

وكما ذكرنا كان للتقليد فى تناول الوجبات تأثيراً كبيراً على الإقبال على تناولها وكان يطغى على تأثير مضمونها، حتى وإن كانت ضارة مثل التدخين .

تناول وتذوق الوجبات

هناك العديد من أنواع الوجبات التى تحتاج إلى قدرات وخصائص معينة عند من يريد تناولها وتذوقها بشكل مناسب، فالموسيقى لا يمكن لكل الناس تذوق كافة أنواعها وأشكالها، فالسيمفونية مثلاً لا يمكن لكل إنسان أن يتذوقها، ربما تؤثر فيه ولكن ليس بالطريقة التى كان يهدف لها مؤلفها ولا يتذوقها بالطريقة التى يتذوقها عشاق الموسيقى الكلاسيكية وكسيمفونية لمؤلف معين، وكذلك كل نوع من موسيقى الشعوب لا يمكن أن تتذوقه كل الشعوب الأخرى بسهولة.

وبالنسبة لتذوق فن الرسم وبالذات الرسم الحديث هناك متطلبات كثيرة يلزم توفرها فى متذوقيها، وهذا يشابه تذوق أى وجبة فهناك العادة والخبرة والهدف أو الغاية والقدرة على التذوق…. جميعها تتحكم فى تناولها وتذوقها.

وبشكل عام هناك دوماً اختلافات وفروق بسيطة أو كبيرة فى طبيعة ومقدار التناول والتذوق الحسى من موسيقى ومنظر وروائح وطعام وباقى الأحاسيس و كذلك فى التذوق الأدبى والفكري، والهدف أو الدافع للوجبة له تأثير على تذوقها.

يجب أن يلاحظ أن دافع الإنسان تجاه الوجبات المنتبه إليها سوف يحجب أو يضعف باقى الدوافع للوجبات الأخرى غير المنتبه إليها أو مبهمة، وهذا راجع لخصائص وآليات عمل العقل لدى الإنسان فالدوافع والرغبات والمعارف التى تدخل إلى مجال الوعى والشعور هى التى يسعى إلى تلبيتها أو معالجتها، وبغض النظر عن أهميتها أو أفضليتها بالنسبة للإنسان، فيمكن أن تكون هناك دوافع أو حاجات أهم منها ولكن لا تدخل ساحة الوعى والشعور لذلك لا يسعى إلى تلبيتها، وهذا يشبه من يقابل المسؤول أو الحاكم لكى يلبى له طلبه، فهو سوف يدرس طلبه ويمكن أن يلبى، أما من يكون يستحق تلبية طلبه ولكنه لا يستطيع الوصول إلى المسؤول فلا يمكن أن يلبى طلبه لأنه لم يعرض على المسؤول.

وهذا ما يستغله الإعلان و الدعاية فهى تدخل الدوافع والحاجات التى تريدها إلى عقول ووعى المستهدفين لكى تأخذ أفضلية على غيرها من الدوافع والحاجات الموجودة لديهم.

الوجبة القديمة والوجبة الجديدة “الإدمان”

إن السعى لتناول الوجبات القديمة أى تكرار الوجبات السابقة عام بين كافة الناس، فكل إنسان يسعى لتكرار الوجبة التى حققت اللذة أو السعادة، وكلما طالت فترة عدم تناولها اشتد الدافع لها وأصبح تأثير تكرار الوجبة أقوى، وهذا أساس العادات والإدمان، وأيضاً أساس الحنين والشوق إلى المؤثرات القديمة، وهو أساس الأعياد والشعائر والطقوس التى تكرر فى مناسبات أو أوقات معينة – وله أساس عصبى فزيولوجي-.
وعندما يكون إعادة تناول الوجبة صعباً أو شبه مستحيل تتصاعد الرغبة والدافع لهذه الوجبة بشكل كبير ” كان زمان، ليتها تعاد”، وهذا بغض النظر عن فائدة تلك الوجبة، هذا ناتج عن خصائص وآليات عمل الجهاز العصبي.

ونحن نشاهد جميع الناس يكررون وجبات واستجابات معينة، سواء فى الطعام، أو الشراب، أو الترفيه، أو الرياضة، أو القراءة، أو الشعائر والأعياد، والعادات الفردية والجماعية تؤكد ذلك .

نحن نجد أن الإنسان عندما يتقدم به العمر تصبح الأحاسيس والاستجابات و العادات التى يسعى إليها ويكررها تقريباً معينة ومحددة، ويصبح انجذابه لممارسة استجابات وعادات جديدة صعباً جداً، وهذا راجع أيضاً إلى أسس عصبية فزيولوجية.

والوجبة الجديدة لا يتم السعى إليها و تناولها بسهولة، فحتى فى الطفولة وعند بدء تكون وتحديد الوجبات المرغوبة، نجد صعوبة فى جعل الطفل يرغب فى تناول وجباته سواء فى الطعام أو غيره، فالوجبة الجديدة يجب أن تحمل خصائص معينة لكى يتم السعى إليها، فالجديد من الوجبات يصعب تقبله أو تذوقه لأسباب كثيرة، فهناك دوماً حذر منه، إذ يمكن أن يكون ضاراً أو مؤلماً أو غير مستساغ …، ونحن دوماً نسعى ونطلب الوجبات التى تناولناها سابقاً وحققت رضانا وأمتعتنا، وأصبحت معروفة لدينا، ونتحاشى بشكل عام الوجبات الجديدة وخاصة إذا لم يكن لها علاقة بوجبات نعرفها سابقاً. والتقليد الذاتى وتقليد الغير فى تناول وجبات معينة هو الغالب أو المعتمد عند الناس، وهذا واضح من تسويق كافة أنواع السلع التى أغلبها وجبات.

الإشباع فى تناول الوجبة

الإشباع هو التوقف عن تناول الوجبة بسبب انتهاء القدرة على التناول، لانتهاء القدرة على الهضم و التمثل والتخزين للمادة المتناولة، فالبنية التى تتناول الوجبة تقوم بهضم وتمثل أو تخزين مواد هذه الوجبة، وبالتالى الاستفادة منها سواء فى الوقت الحاضر أو فى المستقبل، هذه البنية لها قدرات محددة على التناول والهضم والتمثل والتخزين، يتوقف عندها الاستمرار فى تناول الوجبة، وهناك بعض الوجبات ليس لها حدوداً للإشباع أو لها حدوداً عالية جداً مثل وجبة تناول النقود والتملك بأشكاله الكثيرة.

وبالنسبة للكائن الحى عندما يتناول وجباته فإنه يخضع لآليات تبرمج تناوله، سواء كان طعاماً أو شراباً أو غير ذلك، فهذه الآليات تحدد مقدار هذه الوجبات، ونقاط أو مستويات الإشباع والتوقف عن التناول، وحسب كل نوع من أنواع الوجبات، وهذا محدد بقدرات التناول والهضم والتمثل والتخزين للكائن الحي، بالإضافة طبعاً إلى خصائص وحاجات هذا الكائن، فعند توفر كميات كبيرة من الطعام والشراب لا يستطيع جسم الكائن هضمه أو تمثله تتدخل هذه الآليات وتوقف عملية التناول.

ومفهوم الإشباع يستخدم فى الكثير من المجالات، وهو يدل دوماً على وجود وجبة يجرى تناولها وصلت القدرة على تناولها وتمثلها إلى حدودها القصوى، وبالتالى يجب إيقاف تناول الوجبة.

الفن والوجبة

الفن هو كل الأعمال البشرية التى تحدث الأحاسيس والانفعالات المرغوبة أى كل جميل وممتع أو مرغوب، وينشئه الإنسان بدافع ممارسة وتذوق الأحاسيس والمشاعر أو الأفكار، وذلك نتيجة دوافع فكرية ومادية ذاتية واجتماعية.

وهدف الفن فى المحصلة هو إحداث الأحاسيس المرغوبة للذات أو للآخرين، والفن بذلك ينمى و يوسع الأحاسيس والمشاعر والوعى والإدراك للذات والوجود .

إن الإنسان يستخدم كافة العناصر والإمكانيات المتاحة له ليشكل إنتاجه الفنى فهو يستخدم إما الأصوات والنغمات والإيقاعات أو الخطوط والأشكال والألوان أو المأكولات أو الكلمات والمعانى أو المنشآت والمبانى … وكل ما ينتج أحاسيس الممتعة لديه ولدى الآخرين، وأى إنتاج فنى لا يمكن الإحساس به و تذوقه من قبل الآخرين إلا إذا كانوا قادرين على تلقى رموزه وإشاراته وتأثيراته ويستطيعون الاستجابة لها وتمثل ما تحدثه من أحاسيس، فهناك ما يشبه الإرسال والاستقبال فى عملية تلقى الفن وتذوقه، فيجب ن تراعى خصائص المستقبل وقدراته.

إن الفنان يبدع أو يحضر وجبة يمكن أن يتناولها بعض الناس فيتذوقوها وتحدث لديهم أحاسيس جميلة أو لذيذة أو مدهشة أو عجيبة ….أى مرغوبة، ويستهدف الفنان غالباً عند صنع أو إبداع عمله فنى الأحاسيس والأفكار والدوافع المشتركة بينه وبين هؤلاء الذين يقدم لهم إنتاجه الفني، فبواسطة قدراته والعناصر والآليات التى يستعملها يقوم بإنتاج عمله الفني، فإذا أحدثت التأثيرات المطلوبة أو أى تأثيرات مرغوبة لدى الذين تلقوها وتناولوها وتذوقوها، يكون عندها نجح فى إنتاج وجبة قابلة للتسويق والطلب عليها، بالإضافة إلى أنه يكون حقق دوافعه الذاتية التى كانت سبباً ودافعاً لإنتاج تلك الوجبة.

والفنان المبدع المتمكن من فنه وصنعته- بوعى وإدراك وعلم أو بدون ذلك- هو المتمكن من معرفة أو حدس خصائص الأحاسيس لديه ولدى جمهوره، بالإضافة لتمكنه من العناصر والآليات التى يستعملها فى فنه ويوظفها بفاعلية جيدة، فهو متمكن من قرع- أو عزف- الأحاسيس المطلوبة والمرغوبة فى عقول الذين يستهدفهم بفنه.

ويمكن أن يفشل الفنان فى جعل الآخرين يتأثرون ويتذوقون فنه مع أنه أنتج فناً يمكن أن يحدث الأحاسيس الجميلة واللذيذة، وذلك لأنه لم يقدم إنتاجه للذين يستطيعون تناوله وهضمه والقدرة على تذوقه، أو لأن الذين يستطيعون تذوق فنه قلائل جداً، وهذا يجعل إنتاجه غير صالح للتسويق، وبالتالى يهمل .

إن الأدب بشكل خاص يمتاز عن باقى الفنون فى قدرته على تنويع وتوسيع الأحاسيس التى يقدمها كوجبات فنية، فالأحاسيس التى يستطيع الأدب أن يحدثها لدى متلقيه هائلة التنوع والاتساع وعالية التطور، فحتى السينما وقدراتها الهائلة لا تستطيع أن تنافس الأدب فى مجالات كثيرة، وهى لابد أن تستعين بالأدب.

فللأدب قدرة على كشف وتمثيل- ترميز- أعقد الأحاسيس والمشاعر والأفكار الإنسانية ونقلها إلى الآخرين، وقد بلغت قدرات الأدب الآن مستويات عالية جداً فى إحداث الأحاسيس والمشاعر المتطورة والمعقدة، إن المشاعر والأحاسيس والانفعالات التى يخلقها الأدب لا يمكن أن تبزها أية مشاعر أخرى، فحتى الواقع الافتراضى الآن- لا يمكنه أن يتفوق على الأدب، إلا إذا استعان بالأدب نفسه.

إن قراءة رواية أو مسرحية… هو بمثابة أن نعيش ونشعر أحداثها وحياة شخصياتها، أما قراءة نقد أدبى متطور فهو بمثابة أن نعيش ونشعر ونعى وندرك حياة البشر والعلاقات فى هذا الوجود.

إن الأدب ليس هدفه الأساسى المعرفة أو الإصلاح والإرشاد فهو يتجاهل الكثير من المعارف الأساسية فى أحيان كثيرة، وذلك فى سبيل عزف الأحاسيس والانفعالات المطلوبة لدى متلقيه.
إن الدين من أهدافه أيضاً عزف الأحاسيس الجميلة والسعيدة ولكن ليس هذا هدفه الأساسى فهدف الدين الأساسى هو الخير والمفيد للفرد وللمجتمع، وهذا يجعل الدين يتفوق على الأدب فى إقبال الناس عليه وهذا ما نلاحظه بوضوح.

هناك فن بدأ يتشكل وينمو بسرعة إن هذا الفن سوف يمكننا مستقبلاً- وهذا ليس ببعيد- من تذوق وعى وأحاسيس تماثل ما نعيشه أثناء الأحلام ولكن فى المجالات التى نريد ونرغب بها وبالخصائص والمقدار والشدة التى نريد، فالأحاسيس التى يتم تذوقها من قراءة أو سماع قصص ألف ليلة وليلة أو غيرها من القصص والملاحم والأساطير.. وكذلك ما يمكن تذوقه من أحاسيس ومشاعر وانفعالات من ممارسة كافة هذه الأنواع بالإضافة إلى أحاسيس الأحلام كل هذا سوف يكون متاحاً مثله وأكثر بواسطة فن الواقع الافتراضي.

فهذا الفن سوف يمكننا من عزف الأحاسيس والمشاعر والانفعالات التى نريد لدى أى إنسان، فالجهاز العصبى للإنسان والقدرات الهائلة على الإحساس والوعى التى يملكها تمكننا من ذلك، إذا كنا نملك القدرات اللازمة للتحكم بالمداخل الحسية الذاهبة إلى دماغه.
إن الأحاسيس والانفعالات التى يتذوقها المتصوف أو المتعمق فى الدين والإيمان، أو الفيلسوف، أو الفنان، أو العالم ….، سوف لن تكون مستحيلة التناول فى الواقع الافتراضي، صحيح أن الأدب والسينما استطاعا عزف كمية هائلة من أنواع الأحاسيس والانفعالات لدى المتلقين، ولكن الآتى أعظم بكثير .

وبالإضافة إلى كل ذلك فسوف يتم توسيع و تنويع جديد لأحاسيسنا وانفعالاتنا التى نملكها الآن بواسطة التقدم الذى سوف يحصل فى العلوم الفسيولوجية والتكنولوجية، فسوف يخفف الألم وتتم السيطرة عليه وتلغى أشكاله القوية، وسوف تصنع أو تشكل أحاسيس جديدة بواسطة التحكم الفسيولوجى والعصبى – فى المستقبل – .

كما ذكرت أننا، الآن نتذوق الفنون من طبخ وحب وموسيقى وأدب وسينما….الخ بالإضافة إلى تذوقنا للعلاقات الاجتماعية من صداقة وتعاطف وانتماء وحب تملك وحب سيطرة…. و الكثير منا يحصر مجال تذوقه فى وجبات معينة ويدمن عليها، فهناك من يجمع المال أو أى نوع من جمع الممتلكات ويتذوق لذة الجمع هذه وهو على الأغلب سوف يعانى ألم الخسارة التى لا بد من حصولها غالباً، وهناك من يسعى لتذوق أحاسيس السيطرة والتحكم والفوز بالصراعات والتنافسات فهو دوماً بين قطبى اللذة والألم الربح والخسارة وحياته الحسية مبنية على ذلك. ولكن تذوق الأدب و الفنون يكون غالباً فى مجال اللذة والسعادة بكميات غير محدودة ولا تقيدها آلية الشحن والتفريغ، كما فى حالة إرواء الدوافع والغرائز الأساسية – مثل لذة الطعام المحدودة بالجوع والشبع-، و ليست خاضعة لضرورة الارتفاع المستمر فى المستوى أو الشدة للاستمرار فى الحصول على اللذة والسعادة، فالفنون بتنوعها وكثرة مجالاتها تسمح بتجاوز الإشباع والتحديد للأحاسيس .
إن هدف الفنون هو قرع الأحاسيس والانفعالات، والناس يطلبون من الفنانين منحهم أحاسيس وانفعالات الحب والحنان والعطف والمواساة والسلوى والمرح والضحك والفخر والاعتزاز والإخاء والانتماء والتشويق والهدوء والجمال واللذة والمفاجأة….، وأحاسيس الخوف والرعب المسيطر عليه، كما يطلبون التمتع بالألحان والنغمات والإيقاعات الموسيقية المرغوبة والممتعة، ويطلبون الروائح والأطعمة وكافة الأحاسيس والانفعالات الممتعة….، فهدف ودور الفن الأساسى هو الممتع، ولا يهتم كثيراً بالمفيد أو الواجب، لذلك يمكن أن يلتقى الدين والسياسة والعلم مع الفن عند تعرضهم للأحاسيس والانفعالات.

* كاتب سورى متخصص فى العلوم الإنسانية
العرب اونلاين [/ALIGN]