حكاية من محكمة شعبية
عندما يلتقي زملاء أو أصحاب أو أبناء (حتة) واحدة بعد طول غياب، غالباً ما يفتحون دفاتر الذكريات ويجترون أيامهم الماضية. قبل يومين ألتقيتُ بصديق ممن طال غيابه، فتحنا (سحارة) الذكريات واستغرقنا في (النوستالجيا)، وكان مما ذكرني به حكاية صديقنا ابن حلتنا الذي كان قد دخل في نقاشٍ حامٍ مع رئيس وأعضاء المحكمة الشعبية التي يطلق عليها الساخرون محكمة الكابويات لغرابة الكثير من أحكامها المفارقة للقانون والعرف والمتعارف عليه، أحكام كانوا ينجرونها ويهندسونها ويتواطأوا عليها بعد أن «يتوالسوا» ويوسوسوا فيما بينه، ثم ينطق بها كبيرهم.
ولفائدة من ليس لهم سابق علم بهذا النوع من المحاكم الأهلية الشعبية، هي محاكم كانت قد انتشرت إبان حقبة السبعينيات وما قبلها خاصةً في الأقاليم والأرياف وأشباه المدن، وكان قضاتها في الغالب الأعم يتألفون من العمد والمشايخ والسلاطين وبعض الوجهاء وفي الغالب يكون أغلبهم أمياً لا يعرف القراءة والكتابة أو لا يحسنهما في أحسن الأحوال، وكان لهذا المزج الغريب الذي جمع السلطة التنفيذية إلى القضائية وجعلهما معاً في يد هذه التوليفة أثره الواضح في غرابة الأحكام التي كانت تميل بوضوح أينما مالت مصالحهم وما كان في صالح الحكومة التي عينتهم، صديقنا وابن حلتنا الذي كان قد أمضى عامه الثالث يدرس الحقوق بجامعة القاهرة الفرع، وكان قد هبط الحلة في الإجازة الدراسية كان حريصاً على متابعة أداء كابويات محكمة الكابويات التي تنعقد مرتين في الأسبوع تحت إحدى الأشجار الظليلة بوسط السوق تتوسطها تربيزة القضاة، وكان دائب المراجعة والطعن والتصحيح لأحكام هذه المحكمة، ولكن في مرة بلغ به الضيق والغضب مبلغاً كاد معه أن يقع ضحية في قبضة هؤلاء الكابويات لولا أن أنقذه مركزه ومكانته عند أهل الحلة وقبل ذلك مقام والده الكبير فيها، وكان الذي آلمه أن تحكم العصبة على أحد الصبية مرتين على جرم واحد هو أنه سبّ أحد أبناء الذوات فعوقب على السباب بالجلد وتمت العقوبة، وكانت قاسية على الصبي فملأ صراخه الآفاق بينما كان ابن الذوات سعيداً يتلذذ بعذاب خصمه بسادية بائنة، ولم يكد الجلاد يهوي بآخر سوط على ظهر الصبي إذا بابن الذوات يتقدم مرة أخرى إلى القضاة ويبلغهم مجدداً بأن هذا الصبي كان قد سبّه قبل شهر بذات العبارات، فأعاد الكابويات للغرابة محاكمته بذات العقوبة.
تداعت هذه الذكريات التي ذكّرني بها هذا الصديق وقد أصبح الآن حجة في القانون يتنفسه كالهواء ولا يحيد عنه للحديث عن غيره وخاصة عن تجاربه في بعض البلدان العربية التي هاجر إليها وعمل بها وقد بهرني بما علم وما عمل فقلت له ممازحاً لقد ضاهيت شريح القاضي الذي قال عنه سيدنا علي كرم الله وجهه أنه أقضى العرب، طرب للمقاربة فحكى لي هذه الحكاية عن نقضاء القاضي شريح الذين لا يفهمون أو ربما يفهمون ولكنهم يلوون عنق القانون.
سأل المأمون رجلاً من أهل حمص عن قضاتهم، فقال يا أمير المؤمنين ان قاضينا لا يفهم واذا فهم وهم، قال ويحك كيف هذا، قال قدم إليه رجل رجلا فادعى عليه أربعة وعشرين درهما، فأقر له الآخر فقال أعطه، قال اصلح الله القاضي إن لي حماراً اكتسب عليه كل يوم أربعة دراهم، انفق على الحمار درهماً وعليّ درهماً وادفع له درهمين حتى إذا اجتمع ماله غاب عني فلم أره فانفقتها، وما أعرف له وجهاً إلا أن يحبسه القاضي (12) يوماً حتى أجمعها له، فحبس القاضي صاحب الحق حتى جمع المدعي عليه المال، فضحك المأمون وعزله كما ضحكنا نحن على قضاة محكمة الكابويات الذين أوقعوا عقوبتين على جريمة واحدة ولكنا لم نعزلهم.
بشفافية – صحيفة التغيير
حيدر المكاشفي