غرايشون.. الغنيمة بالإياب
تعليق طريف يرد على ألسنة المعلقين الرياضيين في مباريات كرة القدم عندما تتكسر محاولتان لمهاجم (حريف) على جدار دفاع صلب أو حارس مرمى متمرس، فيقولون إن (الثالثة ثابتة)، لكن للمفارقة، وكسراً لهذا الإعتقاد فإن زيارات المبعوث الأمريكي للسودان الجنرال سكوت غرايشون الثلاثة الأول لم تفلح في خلخلة الجدر القائمة على طريق العلاقات السودانية الأمريكية، ولم يكن للزيارة الرابعة جديد أثر، وأعقبها الإعلان عن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه السودان، التي عمادها (الضغوط والحوافز)، بجانب الإبقاء على العقوبات كما هي، مما أظهر أنها لم تكن جديدة إلا في مسماها، ولم تفلح الزيارة الخامسة في تحقيق نقاط جديدة، أو في مساعدة الشريكين في التوصل لتفاهمات في القضايا العالقة بينهما.
ويتجه غرايشون الآن إلى العودة للسودان مرة سادسة بعد أن أنهى زيارته الأخيرة قبل أقل من أسبوعين دون تحقيق أغراضها، ويتوقع أن يصل غرايشون البلاد هذا الأسبوع لاجراء مشاورات مع الحكومة ومنظمات المجتمع المدني بدارفور حول عملية احلال السلام، والوقوف على الاوضاع الامنية والانسانية، ودفع عملية التفاوض بالدوحة، وأفادت الأنباء أنه سيركز خلال زيارته على دفع العملية السلمية في دارفور، وكان الرجل قد حل ضيفا عزيزا على البلاد أخيراً للمرة الخامسة منذ توليه مهمته كمبعوث خاص للسلام في السودان، قبل أن يغادرها دون تقدم يذكر فيما أضطلع به من ملفات، وكانت كثير من الآمال تعلقت بتحركاته المكوكية في أن ينجح على الاقل في حمل إدارته على الإيمان بتخفيف العقوبات على السودان، أو على الإقتناع بإزالة إسمه من قائمة الإرهاب التي ظل يزينها رغما عنه لسنوات طويلة، ولعله تقدم بطلب مماثل في وقت سابق في تقرير له أمام الكونجرس عندما قال برفع أمريكا مقاطعتها عن السودان، الأمر الذي تراجع عنه لاحقا في حادثة أريق فيها الكثير من المداد عندما تصدت له الحركة الشعبية مطالبة بعكس ما طلبه غرايشون.
ويحسب لغرايشون أنه الوحيد، ربما، الذي زار دارفور ولم يرفع تقريرا سالبا عن الوضع هناك، حيث أكد أنه لا إبادة جماعية في دارفور، ولعل هذه واحدة من المحطات الفارقة في علاقة الرجل بالخرطوم. وجاء غرايشون إلى الخرطوم أخيرا لإستئناف الحوار الذي ظل يراوح مكانه بين السودان وأمريكا، وكان مواجها هذه المرة ببعض سخط الحكومة لتراجعه عن دعوته لرفع العقوبات، وضغوط من إدارته واللوبي الذي يقف خلفها تحت عنوان السياسة الجديدة لإدراته (حوافز وضغوط)، إلا أن غرايشون بدا معبأ بالكثير من الأمل «ومنذ توليه هذا الملف» في إحداث جديد في العلاقات، إذ قال عند مجيئه الأول حرفيا إنه سينقل لأوباما صورة جديدة عن بلد عظيم.
بدأت الزيارة الأخيرة لغرايشون من جوبا قبل الخرطوم، الأمر الذي ربط البعض لاحقا بينه وبين تصريحات الفريق سلفاكير حول الإنفصال، ورغم ذلك فقد دخل غرايشون في اجتماعات مطولة مع الشريكين في الخرطوم لحسم القضايا الخلافية لم تكلل بالنجاح، وكان غرايشون قد مدد زيارته، ربما للوصول لنتائج في هذه القضايا، وتفاءل غرايشون مسبقا بامكانية حصوله على نتائج، وبدا أكثر إصرارا على تحقيق نتائج طيبة في الزيارة السابقة، وعبر عن ذلك بقوله إنه لا مجال للفشل، وأن الفشل ليس خياره، ولم تقتصر تحركاته على الشريكين وقضاياهما فقط، فمضى للإلتقاء بالقوى السياسية المعارضة، وتلقى مذكرة من تحالف القوى الوطنية حول الوضع السياسي الراهن، وجمعه لقاء مع قيادات حزب المؤتمر الشعبي. ورغم نتائج الزيارة الأخيرة غير المبشرة إلا أن هناك تفاؤلا كبيرا بأن يحدث غرايشون تحولا في العلاقة بين السودان وأمريكا، لجهة أن الرجل يجد قبولا، ويبدو صادقا في سعيه، لأنه كما ذكر من قبل «يحب السودان»، ولأن الملف الآن بين يدي د. غازي صلاح الدين مستشار رئيس الجمهورية، الذي يرى بعض المراقبين توافقا بين طريقته وطريقة غرايشون في إدارة الملفات، بجانب العلاقة الجيدة بينهما، إضافة إلى أن د. غازي شهد في حق الرجل بخير حين ذكر أنه يحاول أن يكون نزيها في حدود ما تسمح به السياسة الأمريكية. ويعتقد الخبير الدبلوماسي السفير عبد الوهاب الصاوي أن زيارة غرايشون الماضية جاءت في وقت فيه أزمة بسبب حديث سلفاكير عن الإنفصال، بجانب المقاطعة القائمة للبرلمان، ويضيف أن الزيارة لو جاءت في ظروف أفضل لكانت أكثر فائدة لأنها ستأتي وواقع الجبهة الداخلية قوي، ويستطيع أن يعود بوجهة نظر سودانية قوية تساعده على الضغط، لأن غرايشون قادم وهو متعرض لضغوط مستمرة من واشنطن، ولذلك لا بد أن يعبر عن وجهة النظر السائدة هناك، وهي وجهة نظر مبنية على الأمرين، الإنفتاح والتعاون، بجانب ضغوط اللوبي الصهيوني والكونجرس. ويؤكد الصاوي أن الشئ الوحيد الإيجابي في هذا التواصل هو استمرار الحوار، وأن هناك جدية في استماع كل طرف للآخر في انتظار الجو المناسب، وإرادة التقدم للأمام، لكنه يضيف أن غرايشون يعبر عن وجهة النظر الأمريكية القائمة على الجذرة والعصا، وهو أمر مرفوض، والمطلوب حقوق في التعامل كما قال د. غازي. ويعود الصاوي ليقول إن سير الحوار لا يعطي تفاؤلا بحدوث أشياء إيجابية، وفي ذات الوقت فإن عنصر الوقت ضاغط والسودان مقبل على مسائل كثيرة تحسم العام المقبل، ولذلك فإن على أمريكا، ما دامت داخلة في هذه التعقيدات، أن تكون شريكا إيجابيا في معالجة هذه المسائل، لكن ليس هناك ما يوحي بالإيجابية من الناحية الأمريكية.
وفي ذات الإتجاه يمضى خبير العلاقات الدولية بروفيسور إبراهيم ميرغني الذي يرى أن العلاقات بين البلدين مربوطة برؤية أمريكية للسودان، ويقول إنها تنظر للسودان وليس للحكومة السودانية، فالحكومة واحدة من القوى الموجودة، ولذلك عليها أن تستوفي استحقاقات في قضايا السلام الشامل ودارفور والإنفتاح الديمقراطي، وبعدها يأتي ما وصفته أمريكا بالحوافز، ويقول ميرغني إنه لو لم يتحقق ذلك فليس هنالك أمل، ويستطرد بأن الحراك الحاصل الآن لن يقود للخروج من المربع الحالي لأن المؤتمر الوطني يعتقد ان الأمريكان يدورون في مربعه فقط، وعليه أن يفهم هذه المسألة، ويشرك السودانيين، لأن السودانيين الآخرين -حسب ميرغني- لديهم دور في دفع العلاقات بين البلدين، لأن أمريكا أصبحت تفهم القضايا من خلالهم، ويشير إلى أن غرايشون بحث في جوبا ما تريد أمريكا أن يحدث فيه تقدم، ويزيد بأنه لو لم يتم تحرك تجاه القضايا الداخلية بحسبانها ستؤدي لإستقرار في السودان فلن يكون هنالك استقرار. وكيفما كان الامر فإن الإسراف في التفاؤل بزيارات غرايشون الأخيرة، يبدو أمرا صعبا، نظرا لتعنت ادارته في كثير من الملفات، لكن يبقى استمرار الحوار مدخلا جيدا لتحقيق بعض النقاط كما عبر د. غازي صلاح الدين، من قبل.
عوض جاد السيد :الراي العام