أهّلوني وطردوني
لم أعمل في السفارة البريطانية مدة طويلة، فقد تم انهاء خدماتي بإيعاز من مسؤولين في حكومة الفيلد مارشال جعفر نميري، أخذا في الاعتبار أنني كنت قد خرجت من السجن الذي دخلته كمعارض لنميري قبلها بنحو سنة، واعترض مستشار السفارة رونالد قرايمز على قرار فصلي من العمل، وبعث بعدة مذكرات في هذا الصدد إلى الخارجية البريطانية، ولكنهم قالوا له: من يكون جافر أباس هذا كي يعمل رأسه برأس جافر نميري، وكان نميري وقتها قد ركب السفينة الأمريكية بعد أن تاب من الاشتراكية، فكان السودان البلد العربي الوحيد الذي ظل على علاقة دبلوماسية وثيقة مع رئيس مصر أنور السادات، بعد أن قاطعته بقية الدول العربية بعد توقيعه معاهدة السلام كامب ديفيد مع إسرائيل.
ومع هذا فقد غادرت السفارة بلا مرارات، فلكل بلد مصالحه ولو باعوني إرضاء لنميري فـ «سو وات؟»، ما فيها شيء، فنميري حكومة وأنا مجرد موظف وبإمكان السفارة أن تحصل على من هو أفضل مني لملء الوظيفة التي شغرت بطردي منها، وكنت واثقا من أنني سأحصل على وظيفة محترمة خلال أيام، وكنت أعرف ما هي تلك الوظيفة: مدرس «تاني من أول وجديد»، وذهبت الى وزارة التربية بعد إنهاء خدماتي كعميل بريطاني بأسبوع، فاستقبلوني بالأحضان وأعادوني فورا إلى الخدمة، بل احتسبوا فترة عملي في السفارة ضمن سنوات خدمتي في الوزارة، (كما اعتبروا من قبل فترة سجني ضمن سنوات الخدمة)، وهكذا استأنفت التدريس مترقيا من الدرجة كيو إلى دي. إس، فصار راتبي في حدود كذا وستين جنيها، ولكنني خرجت من السفارة البريطانية بمكسب ضخم جدا، وهو عشق الصحافة، فشخص مثلي كان يقرأ يوميا صحفا «راقية» مثل الغارديان والتايمز والدايلي تلغراف وأسبوعيا مجلة إيكونومست، كان يصاب بذهول عندما يقرأ الصحف المحلية ويكتشف بؤس تغطيتها للأحداث إما بسبب شح الموارد وإما بسبب الرقابة الخانقة، حتى بعد مغادرتي السفارة ظللت سنوات في قائمة من يحصلون على الصحف البريطانية مجانا بالبريد، وزادني ذلك إلماما بالشؤون الدولية، وفوق هذا كله فقد كنت مطالبا بإعداد نشرة صحفية يومية بالإنجليزية تحمل خلاصة أهم ما يرد في الصحف السودانية، يتم توزيعها على سفارات الدول الأخرى بعد تزويد الخارجية البريطانية بنسخة منها، واكتسبت من كل هذا بعض مهارات التحرير الصحفي، لأن الملحق الصحفي/ الثقافي في السفارة ألن غولتي (صار قبل سنوات الوسيط في المفاوضات بين المتمردين في جنوب السودان وحكومة الخرطوم) كان يطخني بملاحظات قاسية كلما قصرت أو أخطأت، وربما يفسر هذا لماذا كانت أول تجربة لي في العمل الصحفي كوسيلة لأكل العيش في صحيفة إنجليزية (في دولة الإمارات).
وتشاء المقادير أن يتم ترشيحي بعد التحاقي مجددا بوزارة التربية، لبعثة دراسية في لندن توطئة لإلحاقي بإدارة التلفزيون التعليمي، فكان أن ذهبت الى لندن، وكانت زيارات استوديوهات بي بي سي و آي. تي. في. جزءا من تدريبنا لاكتساب مهارات العمل التلفزيوني، وهكذا كان البريطانيون من غير قصد منهم من فتح شهيتي على الصحافة المكتوبة والتلفزيون، فصرت لاحقا «إعلاميا»… بالأوانطة؟ لا، بل بالعرق والمثابرة والتجربة والخطأ مثل معظم أبناء وبنات جيلي من الإعلاميين. ومرة أخرى أقول لجيل الشباب إن دراسة الإعلام في الجامعة لن تجعل منك إعلاميا ما لم تكن سلفا مهيئاً ثقافيا وذهنيا لدخول هذا المجال، فدور الإعلام هو تقريب المسافات وجعل الناس في السودان مثلا، يدركون أن ما يحدث في السنغال يؤثر على حياتهم (حتى قبل ظهور خطر الإيبولا).
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]