جعفر عباس

لندن تسبب اللوثة العقلية

[JUSTIFY]
لندن تسبب اللوثة العقلية

فزت ببعثة لعام دراسي واحد في لندن، وأصبت بلوثة عقلية من شدة الفرح والذهول: يا جماعة أنا مازلت عاجزا عن استيعاب بلاوي الخرطوم، ومازلت في دواخلي ذلك القروي ابن جزيرة بدين، الذي كان يعود من المدرسة ثم يسرح بالغنم أو يتوجه الى الحقول لجلب القش/ العلف لها (بالمناسبة البهائم في السودان مدللة أكثر من البشر، وتعيش في عز مقارنة ببهائم أوروبا وأمريكا، فالنعاج والغنم والمواشي عموما في السودان تأكل غذاء فريش، وغير ملوث بالأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية، ولهذا يتميز لحمها بالخلو من النتانة التي تجدها في معظم لحوم الدول الأخرى، كما تتميز تلك البهائم باللياقة البدنية العالية، فأصحابها يسيرون بها عبر مئات الكيلومترات بحثا عن الكلأ ثم بحثا عن الأسواق، وليست مدللة عالفاضي مثل الخراف الاسترالية – مثلا – التي يتم نقلها بالشاحنات والسفن وهي تأكل التبن. تذكّرت واقعة كنت شاهدا عليها، فقبل سنوات بدأت الخراف السودانية تثبت وجودها في السوق القطرية، وذهبنا إلى زريبة فيها بهائم بلدنا، وقال صاحبها إن الخروف بـ1500 ريال في وقت كان فيه الخروف الاسترالي بـ300 ريال، فقال صاحبي للبائع: ليه بـ1500 ريال.. جا بالدرجة الأولى بالطيارة؟).
وأظن أن القارئ يتفق معي في أنه من الطبيعي أن يصاب قروي بلوثة مؤقتة عندما يقال له: ستذهب الى لندن وستعيش هناك ماكل وشارب وساكن وصايع ببلاش!! لو القاهرة أم الدنيا، لندن تكون ماذا؟ آدم الدنيا؟ والعجيب في الأمر هو أنني مثل أبناء وبنات جيلي كنا نعرف عن لندن أضعاف ما نعرفه حتى عن بعض مدن السودان، فقد كانت المناهج المدرسية على أيامنا تلك من وضع البريطانيين، وأذكر أنه وفي أول سنة يبدأ فيها تعليم الإنجليزية كانت هناك أهزوجة (شعرية) تمجد بريطانيا تقول بالحرف الواحدWhere is it going the big British ship?/ where is going out there on the seal / it is going to India, China, Malaya/ for cotton and rubber/ for tin and for tea/ in the ship is a car/ and a bus and lorry/ a train and a plane/ and this reading book too/ are British from Britain/ for you and for me.
وعلى رأس الصفحة كانت هناك لوحة لسفينة، والترجمة المختصرة للكلام أعلاه: إلى أين تتجه السفينة البريطانية الضخمة أين تذهب في عرض البحر/ إنها ذاهبة الى الهند والصين والملايو (ماليزيا لاحقا)/ لتجلب القطن والمطاط والقصدير والشاي/ وفي السفينة سيارة وحافلة وشاحنة/ وقطار وطائرة / وكتاب المطالعة هذا/ وجميعها بريطانية من بريطانيا من اجلك ومن اجلي».
شفت الملاعين، يعني يا شعوب يا غلبانه سفننا تأتيكم لتأخذ منكم المواد الخام وتزودكم بالمخترعات الحديثة مثل السيارات والقطارات والشاحنات والكتب، وفي هذا خدمة لكم يا تعبانين يا مقطعين، وقس على ذلك، فقد كنا نحفظ أناشيد الطفولة في بريطانيا ونقرأ القصص الشعبية وبدأنا نعرف لندن الكئيبة من روايات تشارلس ديكنز ثم لندن الحديثة من روايات سومرست موم وأغاثا كريستي حتى الريف البريطاني كنا نعرف تفاصيله بدراسة الشعراء الرومانسيين من أمثال ويردزويرت وكولريدج وكيتس وشيلي وبايرون.
هل تقول هذا غزو ثقافي؟ يا عمي هم غزونا عسكريا.. وليس بعد الكفر ذنب!!!
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]