عبد الجليل سليمان

قُندران الأسباط ودقسة المثقفين


[JUSTIFY]
قُندران الأسباط ودقسة المثقفين

ولأنهم لن يصيخوا لنا، ليس لوقرٍ في آذانهم، وإنما لادعاءاتهم التاريخية بأنهم دوماً على صواب، رغم أن الواقع يقول بغير ذلك، دعونا نُنحي بالسياسيين وبأفاعيلهم جانباً، خاصة وأننا لا نُريد أن نُفسد على أنفسنا وزاويتنا وقرائنا، هذا الطقس البديع الذي طرأ بغتة على الصباح الخرطومي (صباح أمس).

استثمار هذا (الجو الرائع)، لا يكتمل إلى صورته المثالية، إلاّ باستحضار الصديق (محمد الأسباط) المُحرر العام في هذه الصحيفة، كونه حكَّاءاً بهياً وسارد يوميات فذ ومُقارب لطيف. قال (الأسباط) في سيرة الشاحنات الثقيلة (heavy trucks) في السودان، بصفتها الأولى التي كانت على نسق (قاطرة ومقطورة)، أن السودانيين أطلقوا عليها اسم (قندراني)، نسبة لأن سائقيها كانوا إثيوبيين وإرتريين، وكان جُلهم من مدينة (قُندر) الإثيوبية فأطلقوا (قندراني) على الشاحنة كلها.

ثم تحولت (الونسة) اللطيفة، إلى حوار جاد، حول تأثر المحكية السودانية (الدارجة العربية) باللغات السودانية الأخرى ولغات دول الجوار، وانتقلنا إلى فضاءات بديعة ما كنا سنطرقها لولا (قندران الأسباط)، واكتشفنا في تلك الفضاءات أن (داقس، شفت، فارة، وقِد) التي تستخدم بكثافة هائلة في اللغة اليومية للسودانيين (كماسرة ومثقفين)، كلها مفردات تنتمي للغتين الأمهرية والتجرينية السائدتين في إثيوبيا وإريتريا، وعبر الحراك البشري والتثاقف الهائل انتقلت إلى المحكيِّة العربية السودانية واندست فيها بسلاسة ويسر حتى ظُن أنها (منها وفيها).

أخذنا الحوار (القندراني) الممتع إلى نتيجة مفادها، أن محكيتنا العربية محتشدة بكلمات وجمل وتعبيرات لا حصر لها، منها النوبية والهوساوية والبجاوية والسواحيلية وخلافها من اللغات المحلية و(المجاورة)، لكن ولعجز ما، أو كسل، أو لربما لنوع من (استسهال) الأمور، فشل الباحثون في اللغات، ليس فقط من اجتراح مقاربة علمية ذكية تتوسل هذا التثاقف البديع للاقتراب زلفى من تلك الشعوب المؤثرة على وجداننا والمتسربة إلى لغتنا، بل حتى من اكتشاف أصول تلك المفردات وإحالتها إليها وتبصير الناس بها.

بالنتيجة، فإننا نحتاج مراكز دراسات استراتيجية حصيفة تُقصي الأفندية المكتبيين الراهنين من بين ظهرانيها، وتأتي ببحاثين ماهرين ذوي خيال خصب ومعرفة عميقة بالثقافات الأخرى، وتشتغل على مثل تلك المقاربات بصبر ودأب، حتى نضع أنفسنا في صدارة دول المنطقة أكاديمياً وثقافياً، وحتى لا (ننطق عن الهوى) عندما نتحدث عن ثقافات تلك المنطقة، وعن ثقافاتنا ولغاتنا المحلية، كما يفعل من يدعونهم هذه الأيام بـ (الخبراء)، الذين من فرط جهلهم جعلونا مقارنة بالجوار، مثل (ترلة قاطرا قندراني)، كما تقول الأغنية (الشعبية).

[/JUSTIFY]

الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي