أكمام الأخبار
إذا أردت أن تُحلِلْ خبراً، أو حادثةً، أو (مقالاً)، بطريقة ذكية وحصيفة، فلا تمسك بخناقه و(تقبقبه)، بل تحسس (كُمه) بإطراف أصابعك الثلاثة “(السبابة والإبهام) و(الوسطى عند اللزوم)، وإياك إياك إشراك (الخنصر والبنصر)، وإلاّ ستُغني (الشقي ما بنسعد، والحسين جدو النبي).
وها أنا ذا أمد أصابعي الثلاثة إلى كُم وزارة الخارجية، وأسرق من بيانها (المدسوس فيه)، عبارة واحدة (المراكز الثقافية الإيرانية تشكل تهديداً للأمن الفكري والاجتماعي)، ثم أنزع أصابعي فأجدها متورمة.
سبب الورم، ليس القرار ولا البيان في حدّي ذاتهما الدبلوماسية، لأنني شخصياً غير مُهتم بالأمر حتى وإن وصل حد (قلع) مبنى السفارة الإيرانية، والقذف به في الخليج الفارسي، كما أنني مع حق أي دولة في إيقاف أية أنشطة تجرى داخل الأراضي التي تبسط عليها سيادتها، متى ما رأت أن ذلك يتسق مع مصالحها وأمنها القومي.
لكنني، من موقعي الذي في (كم الخبر)، أصابني مصطلح (الأمن الفكري) الوارد في حيثيات ودفوعات الخارجية في مقتل من (عقلي)، إذ، وإلى وقت قريب (قبيل صدور البيان)، كنت أعتقد أنه (الأمن الفكري) نوع من الشعور الفردي أو المجتمعي بالطمأنينة على ثقافته ومعتقداته وأعرافه من أن يصيبها التشويه أو التشويش أو الاختراق، وأن الشعور بهذه الحالة لا يمكن تكريسه بالانغلاق وإنما بالانفتاح على والحوار مع الثقافات الأخرى والاطلاع عليها وتداولها والأخذ والرد بشأنها دونما (قبضة وضبة)، ودونما خوف وخشية، خاصة في عصر سيادة وسطوة النشر الإلكتروني، وشيوع المعرفة وانتشارها، فيمكنك عبر جهاز صغير (الموبايل)، أن تطلع على كل الأفكار والأديان والمعتقدات واللغات والثقافات، وأكثر من ذلك، مما لا يجب أن نقوله هنا.
لذلك، بدا لي مبرر الخارجية بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية الذي حشدته في عبارة (الأمن الفكري)، مُدهشاً للغاية وغائم المعنى كُلياً فيما لو أخذناه باليمين المذهبية، أو قلبناه بـ(الشمال) الثقافية، فالشيعة والسنة مذهبان لإطار واحد (الإسلام)، واللغتان العربية والفارسية بنتان لرسم واحد، و(وسنة) السودان الذي لا يوجد فيه شيعة بالمعنى المذهبي العميق وحتى إن وجدوا فلا يتجاوزون بحسب بعض التقديرات (11 ألف واحد)، سُنة السودان يغنون للحسين ويحتفلون بعاشوراء، ويسمون أبناءهم وبناتهم (علي وحسن وحسين، وفاطمة، وأحياناً فاطمة الزهراء (اسم واحد).
إذاً، أين تهديد الأمن الفكري هنا؟ أما بقيِّة البيان، فلا غبار عليه، ويمكننا أن نضيف عليه: بأن علاقتنا بإيران ليست أهم من علاقتنا بالخليح والسعودية، بل هي تهدد الأمن القومي دعكم عن الفكري، وتفتقد إلى البعد الاستراتيجي، والمصالح الاقتصادية.
بالطبع لن ندعو إلى قطع أواصر العلاقة الدبلوماسية مع إيران، ولا ينبغي لنا أن نفعل، لكننا نهتبل هذه السانحة لننادي بتوطيد العلاقات مع السعودية بشكل خاص، كونها كبرى دول المنطقة، وكونها جارة لا يفصلنا عنها إلا البحر الأحمر، وكون مصالحنا الاقتصادية والروحانية مرتبطة بها ارتباطاً بنيوياً، إذ يعيش فيها جل المغتربين السودانيين، ويصبو إلى زيارتها كلهم.
[/JUSTIFY]الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي