جعفر عباس

من شبه نباتي إلى كنتاكي

[JUSTIFY]
من شبه نباتي إلى كنتاكي

كان أكبر ميدان لصراع الحضارات بيني وبين الخواجات في أول زيارة لي لبريطانيا، في مجال الأكل، فقد كنت «شبه نباتي» خوفا من لحم الخنزير، لا أكل غير البيض والسمك الإنجليزي الشهير المصحوب بالبطاطس المقلية (فش آند تشبس)، ولكن وبصراحة أدمنت الكورن فليكس، ولم أكن قد ذقت طعمه من قبل، وعندما عدت إلى السودان وحدثت أصدقائي عن روعته، قال لي أحدهم: مي يا هو الرُّقاق ذات نفسه! ونجحت في إخراس ذلك الحاقد الذي حاول تبخيس إنجازي بجعل الكورن فليكس ندا وصنوا للرقاق، بتقديم وصف لا يخلو من المبالغة للكورن فليكس وتعداد محاسنه ومفاتنه، ثم جاءني الفرج عندما اكتشف زميل كان معي في نفس البعثة الدراسية، محلا قال إنه يبيع الدجاج المحمر بالقطعة، لحسن حظي كان المحل قريبا من مكان سكننا، ووقفت أمامه ورأيت في واجهته صورة لخواجة بلحية قصيرة حسنة القص والرص، وقرأت اللافتة: كنتاكي فرايد تشيكن! ورغم أنني ومنذ سن مبكرة، عاهدت نفسي – وما زلت على ذلك العهد – على مقاطعة السلع الأمريكية (ما عدا في مجال الأدوية)، إلا أن «حلاوة الروح» جعلتني اقتحم المحل وأقرأ بحذر قوائم الطعام التي تباع فيه، مين عارف يمكن دجاج كنتاكي يطلع اسم دلع لبيبي الخنزير، ولكن أفخاذ الدجاج وصدوره وأجنحته كانت كل ما هو معروض، وأحسست بالأمان عندما اكتشفت أن الباعة في المحل مصريون، وكان ذلك زمان لا يكاد فيه ان تقابل عربيا مصادفة إلا مرة في الشهر، ولو قابلته يلقاك وتلقاه بالترحاب الصادق، وليس كما هو حادث على أيامنا هذه عندما ينفر العرب من بعضهم البعض كلما التقوا، وسمعت كثيرا خلال زياراتي المتكررة للندن (وأتعامل هناك فقط مع مكتب عقاري يملكه قبطي سوداني ابن بلد أصيل)، عربا يدخلون ذلك المكتب بحثا عن مسكن – غالبا شقة – ثم يحذرون موظف المكتب: شرطا العمارة ما تكون مليانة عرب.
كان الدجاج في السودان حتى عهد قريب طعام الأثرياء بالحلال والحرام، ولم يكن عامة الناس يسفكون دم دجاجة إلا للشديد القوي، مثل وصول ضيف عزيز واجب التكريم أو في مناسبات الزواج، وعندنا في شمال السودان النوبي كان لزاما على أهل العروس تقديم الدجاج للعريس وضيوفه في وجبة الإفطار (العادة عندنا، قبل أن نسمع بشهر العسل، كانت تقضي بأن يقيم العريس ويدخل بزوجته في بيت أهل العروس لعدة أيام، ثم يتم الانتقال إلى بيت الزوجية في زفة كبيرة، ومعظم المشاركين في الزفة يحملون هدايا عليها القيمة للزوجين: صحن، صينية، أكواب شاي، أطباق مصنوعة يدويا وزاهية اللون… قبل نحو سنتين ذهبت إلى بيت صديق شاب، وعريس «جديد» في الصنعة، ومعي هدية مغلفة بعناية وعندما مددتها له، قال لي: والله لو خلاط ترجع به بيتكم! فضحكت وقلت له: بالتأكيد مش خلاط، وسألته عن سر بجاحته بدرجة أنه يفرض على الناس نوع الهدية التي يرحب بها ولو بشكل غير مباشر، لأنه يعلن رفضه قبول اي خلاط، فقال لي: تصدق جاتني 8 خلاطات هدية. أنا عايز افتح بيت زوجية وللا كافتيريا، وتعاطفت معه لأنني بدوري صرت اتضايق كلما أهدى إلى شخص أو جهة ما ساعة، وأكاد أصرخ فيهم: يا جماعة أنا طلقت الساعات منذ ظهور الموبايل، وعندي في البيت أكثر من عشر ساعات معظمها تعاني من تصلب الشرايين والشلل التام بسبب عدم الحركة).
المهم أن دجاج كنتاكي الذي صار اسمه لاحقا كيه إف سي، صار حبي الأول والأخير طوال إقامتي في لندن، وكنت بذلك قد سبقت أبناء وبنات جيلي في إفريقيا والعالم العربي حيث لم تظهر فيهم محلات كنتاكي إلا في أواخر الثمانينات.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]