ما تعلمته خارج المعهد اللندني
لم تكن دراسة فنون الانتاج البرامجي التلفزيوني أهم ما كسبته من الابتعاث الى لندن في أواخر سبعينيات القرن الماضي، فكل ما تعلمناه وقتها صار قبل سنوات في خبر كان، فمثلا كانوا يعطوننا كاميرا فيديو للتصوير الخارجي، في حجم مكيف الهواء، وما لم يكن معك مساعد يسند ظهرك، كان المؤكد أنك ستطلع منها بصور تعاني من انزلاق غضروفي مثلك، ولم يكن هناك ما يسمى اليوم «أوتو كيو»، وهي الشاشة الالكترونية التي يقرأ منها المذيع المادة التي يقدمها فيحصل ما يسمى «آي كونتاكت» اي النظر المباشر بينه وبين المشاهد، وكثيرون يحسبون هذا الرئيس أو ذاك خطيبا جهبذا ذرب اللسان فصيحه، لأنه «يرتجل» خطبه، في حين أنه في واقع الأمر يقرأ من «أوتو كيو» الذي يسمى بالإنجليزية أيضا رومتر prompter، ولو ارتجل لـ «بَرْجل» وهرجل وفشل، وكان خير دليل على ذلك العبيط الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، الذي كان يستحق اسم «اللمبي»، فكلما اضطرته الظروف الى ارتجال خطبة من خمس جمل، كان يتهته ويتعتع ويسقط فكه (كان وارين هاردنغ الرئيس التاسع والعشرين للولايات المتحدة أسوأ من شغل المنصب بإجماع المؤرخين وعلماء السياسة، وفي خطبه العامة كان يبرطم بكلام ليس فيه جملة مفيدة أو صحيحة لغويا واحدة وعندما مات عام 1923 بسكتة قلبية كان العنوان الرئيسي لصحيفة نيويورك تايمز: الرجل الذي كان يرتكب عشرة أخطاء نحوية في الجملة الواحدة.. مات)، وكان الرئيس المصري شبه الراحل حسني مبارك أيضا ثورا في قمة الخرف عندما يخاطب الناس من دون نص كتبه فاعل خير، ويحكي إعلاميون مصريون رافقوه في بعض جولاته، أنه زار ذات مرة أحد المصانع في حلوان، وانبسط قوي عندما وجد نفسه يتوسط مئات العمال الذين كانوا يصفقون ويبكشون له، فدار بينه وبين أحدهم الحوار الذي ابتدره مبارك بسؤال: شروط الخدمة عندكو هنا كويسة؟ فقال الرجل: إحنا في نعمة يا ريس، فطرح عليه الريس سؤالا آخر: عندك كم من العيال؟ أربعة والحمد لله وكلهم في المدارس وصحتهم بمب، فواصل الريس الحديث: الحمد لله، ثم سأله: أنت متجوز وللا لسه؟! ولا أدري هل قال له العامل إن الأطفال الأربعة بنظام الأنابيب أو الاستنساخ.
المهم أن أهم ما خرجت به من أول زيارة لبريطانيا هو أن بلدا ليس فيه حرية صحافة وتعبير، تعتبر حكومتها الشعب من فئة الحمير وخسارة فيها الشعير، فقد كنت مواظبا على قراءة الصحف البريطانية الرصينة وأعجب عندما يشرشح كاتب رئيس الحكومة أو أتخن وزير، ثم أقرأ لنفس الكاتب مقالات في الأيام التالية، ما يعني أنه لم يتعرض للكمش ولم يرسلوه وراء الشمس، وكانت وما تزال هناك مجلة اسمها «برايفيت آي Private Eye » وتعني حرفيا «العين الخاصة»، ولكن وعلى وجه الدقة تعني «المُخبِر الخاص»، أسسها أصلا شباب مجنونون كانوا زملاء في المرحلة الثانوية كجريدة حائطية، ثم ما أن التحق ثلاثة منهم بجامعة أوكسفورد حتى حولوها إلى مجلة مطبوعة، وإلى يومنا هذا تعتبر أسوأ المطبوعات شكلا وتصميما وطباعة، ولكن محتواها يجنن، فكتابها بقيادة رئيس تحريرها على مدى نحو ثلاثين سنة إيان هيسلوب، يتناولون أخطر قضايا المجتمع والحكم بلغة لاذعة تنضح بالسخرية الراقية، ولعل قراءة برايفت آي لفترة طويلة هي التي أقنعتني بأن الكتابة الساخرة يمكن أن تكون فنا راقيا من دون السقوط في فخ المسخرة، وهذه المجلة التعبانة التي تشتري آخر عدد منها فتحسب أنها طبعت في عصر رمسيس الثاني هي أكثر المجلات مبيعا في بريطانيا.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]