جعفر عباس

زمن راحة البال ووفرة المال

[JUSTIFY]
زمن راحة البال ووفرة المال

بعد إكمال دراسة فنون العمل التلفزيوني في لندن والالتحاق بالتلفزيون السوداني، معدا ومنتجا للبرامج، وبالتالي اقتصرت علاقتي بالتدريس على الفصول المسائية التي يديرها اتحاد المعلمين السودانيين، وكنت بذلك من ذوي الدخل المرتفع جدا، فمن الناحية الرسمية كنت أتبع وزارة التربية التي كانت تشرف على التلفزيون التعليمي، وكنت أتقاضى منها مرتبا يناهز الثمانين جنيها بعد نيلي ترقية في زمن كانت فيه ترقيات الموظفين منظمة ومجدولة، ولا يحتاج الموظف إلى تقديم عرائض ليتوسل إلى المسئولين ليمنحوه ترقية مستحقة، وحتى لو تأخرت ترقيتك لسنتين لأسباب بيروقراطية، فقد كان ذلك خيرا وبركة، لأنهم كانوا يعطونك فروق الراتب من تاريخ استحقاق الترقية اي بأثر رجعي، فتدخل جيبك مبالغ مهولة، في زمن كان فيه مهر أجعص عروس لا يتجاوز 100 من الجنيهات، ولا أظن أن زواجي بكل مراسيمه المطولة والمعقدة كلفني أكثر من 500 جنيها (لا تشمل كسوة العروس التي أتيت بها من لندن، وكما قلت في مقال سابق فعلى العريس السوداني أن يتعامل مع من يتقدم للزواج بها وكأنها مبهدلة ومقطعة، وبالتالي عليه ان يشتري لها تشكيلة كاملة من الملابس بمواصفات معينة).
المهم أنني وفوق ذلك الراتب كنت أتقاضى مكافأة ثابتة من التلفزيون في حدود أربعين وكذا جنيها، وأكسب من التدريس المسائي نحو 35 جنيها، والغريب في الأمر هو أنه رغم أن دخلي الشهري كان أكبر من ضعف احتياجاتي كرب أسرة صغيرة، حتى بعد أن أعطي والدتي – رحمها الله- نصيبها من الثروة، فإنني لم أكن أملك أي مدخرات، بمعنى أنني كنت أنفق كل دخلي الشهري من جهات ثلاث أولا بأول، ليس لأنني كنت سفيها أو مبذرا، بل لأن ثقافة الادخار لم تكن معروفة في السودان عموما، فقد كانت الدنيا بخير، والحياة نفسها ومتطلباتها بسيطة، وكان هناك أمن وظيفي، وبإمكان كل شخص مؤهل أكاديميا أو مهنيا أو حِرفيا أن يحصل على الوظيفة المناسبة، وكانت النفوس صافية، والذي عنده فضل زاد يعطي بلا منٍّ من هم بحاجة الى عون، أي أننا كما نقول في السودان كنا «نتشايل» بمعنى ان يشيل القوي الضعيف.
حتى العُزّاب في ذلك الزمان ما كانوا من رواد المطاعم، بل كان هناك في كل مدينة العشرات وربما المئات مما يسمى «ميزات» العزاب، وهي البيوت التي يتشارك فيها غير المتزوجين السكن، وكان بمعظم تلك البيوت عامل مهمته الطبخ والكنس والغسيل والكي، وميز تحوير للكلمة الإنجليزية ميس mess والتقطها السودانيون من البريطانيين خلال حكمهم للسودان، رغم أن البريطانيين كانوا يستخدمونها للإشارة إلى الأماكن التي كان العسكريون منهم يتناولون طعامهم فيها سويا، وفعلنا أمرا مماثلا مع كلمة «كانتين»، لأننا نعني بها بقالة مع أنها في أصلها الإنجليزي تعني المطعم الذي تديره جهة ما مدنية او عسكرية خدمة للعاملين فيها)، وكانت هناك في الخرطوم ميزات عزاب ذات شنة ورنة وتاريخ عريق، ولعل أشهرها «ميز الهبوب» الذي كان لسنوات طوال حكرا لخريجي جامعة الخرطوم، وكان للميز وساكنيه دور كبير جدا في التاريخ السياسي للسودان فقد آوى رجالا مطاردين من قبل الأجهزة الأمنية بل ومن شاركوا انقلابات عسكرية وكانوا يواجهون أحكاما بالإعدام، (كلمة هبوب المستخدمة في السودان منذ قرون هي اسم للعواصف الترابية دخلت قاموس الأمريكان مؤخرا بنفس المعنى)، ولعل أقوى دليل على أن ميزات العزاب كانت أشبه بالمؤسسات الاجتماعية أن كثيرا من المتزوجين كانوا «ينتسبون» إليها لقضاء الأمسيات في سهرات بعضها بريء (لعب الورق)، أو الشرب والذي منه، وخذوا في الاعتبار أن الحكومة «ذات نفسها» كانت تملك مصانع للخمور بل صادرت حكومة نميري بار كوباكوبانا وضمته الى القطاع الحكومي وبالتالي كان من يبيعون الخمور فيه موظفين في الدولة ولا أذكر ما إذا كانت لديهم «نقابة» أم لا.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]