نظرية التطور الخاصة بجيلنا
بعد أن التحقت بالتلفزيون السوداني معدا ومقدما لبعض البرامج، كنت مشدوها لا أصدق ما يحدث لي، وكما ذكرت في مقالاتي مرارا فإن هناك أشياء لم ينجح عقلي في استيعابها تماما: كيف أمسك بجهاز صغير وأضعه على أذني، وأتكلم وأنا في دولة قطر مع شخص في بوركينا فاسو؟ وعندما كانت التلفونات بأسلاك كانت المسألة مفهومة إلى حد ما، بافتراض أن الأسلاك تلك تتولى توصيل الكلام بطريقة أو بأخرى، ولكن حتى في عهد الهواتف السلكية، لم أكن أفهم كيف يسافر كلامي من الدوحة إلى لندن وانا اعلم انه لا أسلاك ممتدة بين المدينتين، وإلى يومنا هذا لا أستطيع التكلم مستخدما التلفون بصوت منخفض، ربما لأن أول هواتف تعاملنا معها كانت مصابة بصمم جزئي، فكان لا بد من الصراخ لتوصيل الكلام واستقباله بين الطرفين، ومازلت أعجب من قدرات البعض على التحدث هاتفيا بصوت منخفض لا تسمعه حتى وأنت جالس جوار المتحدث، وهناك أناس يجيدون المكالمات الهامسة خوف «الانقفاش»، وهم في الغالب من يتآنسون مع الحبيب/ الحبيبة في أوقات تكون فيها حرية التعبير مقيدة، ومعروف أن كثيرين من الشباب من الجنسين الذين تربطهم علاقة حب معترف أو غير معترف بها من قبل أهل الطرفين، يجرون مكالمات هامسة أو شبه صامتة في أنصاص الليالي، وقد يكون سرير الفتاة – مثلا – على بعد مترين من سرير أمها أو أختها، وتظل تتحدث مع حبيب القلب ساعتين من دون أن يتسلل الكلام إلى آذان الأم أو الأخت، وحتى لو حدث التسلل وجاء التساؤل: بسم الله الرحمن الرحيم. مالك بتكلمي روحك تحت البطانية؟ هنا، إما تتصنع الفتاة النوم وتبقى صامتة، أو تقول بدورها: بسم الله الرحمن الرحيم.. كابوس فظيع.. شكرا لأنك صحيتيني! وفي مثل هذه الحالات يعرف الحبيب على الطرف الآخر أن ظروفا اضطرارية جعلت منه كابوسا.
لنترك الهاتف في حاله، وتعالوا إلى التلفزيون الذي تجده في كل بيت، واسمحوا لي وأنا الآن أعمل في أكبر شبكة تلفزيونية خارج أوروبا والولايات المتحدة (الجزيرة)، بأن اعترف بأنني مش فاهم إزاي المذيع يتكلم في واشنطن – مثلا – وأنا أسمعه وأراه في الثانية نفسه، وكيف لا تتلخبط وتتخربط وتتشربك الصور والأصوات الصادرة عن سي إن إن مع تلك الصادرة من الجزيرة وبي بي سي والفضائيات الليبية والبوركينا فاسوية، مع أنها كلها طائرة في فضاء الله الواسع ولا توجد ممرات خاصة بكل قناة، يا جماعة نحن جيل كان الواحد منا إذا وجد فرصة للاستفراد بجهاز راديو (وكانت الراديوهات في زماننا في حجم مكيفات الهواء)، نتسلل خلفه وننظر عبر ثقوبه العديدة لرؤية القزم الثرثار الجالس بداخله، وكنا نعتبر كل جهاز نعجز عن فهم أسلوب عمله من إنجازات «الحكومة»، وأيقنا أن الأمر يتعلق بالسحر عندما فكرنا في الأغاني، وكيف أنها تتطلب وجود مطرب ومجموعة من العازفين لا يمكن حشرهم في صندوق صغير، حتى لو كان الواحد منهم قزما طوله قدم واحد وعرضه خمس سنتيمترات.
ولهذا أعتقد أن جيلنا محظوظ، فقد ركب قطارات البخار ثم الديزل ثم الكهرباء، وشهدنا عصر المراوح، ثم مكيفات الهواء التي تعمل بالماء ثم بالغاز ثم الصنف المركزي (السنترال)، وبعد أن كنا نشرب الماء من الزير، صار أهلنا يرسلو لنا لشراء ربع لوح ثلج، ثم لم تعد بنا حاجة إلى الثلج، بعد أن اكتشفنا الثلاجات، وأعترف بأنني إلى يومنا هذا لا أفهم كيف يصبح كل ما تضعه في الثلاجة باردا رغم أنها تعمل بحرارة الكهرباء.. يا ما انت كريم يا رب.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]