جعفر عباس

أرامكو والبريد اليدوي والصناديق

[JUSTIFY]
أرامكو والبريد اليدوي والصناديق

كان من مشاق العمل في أرامكو الانضباط الشديد في مواعيد الحضور والانصراف، وإنجاز كل مهمة في موعد معلوم، وبالتالي لم تكن هناك فرصة للزوغان إلى مكتب مجاور للدردشة مع صديق أو زميل عمل، وكان عددنا في المكتب الرئيسي للشركة في الظهران يربو على الألف، ومع هذا لم تكن تسمع سوى طقطقة الآلات الكاتبة (التايبرايتر)، يعني لا دردشة لا قهقهة، وهو أمر غير مريح وغير طبيعي في مكان عمل في دولة عربية، حتى في قاعة الطعام التي كانت تتسع للمئات لم تكن تسمع سوى الأصوات الصادرة عن الملاعق والشوك والسكاكين (طبعا أخوكم كان قد اكتسب مهارات في استخدام تلك الأدوات في أول زيارة له للندن)، وكانت الفرصة الوحيدة للونسة والدردشة متاحة خلال استراحة الغداء، وكان السودانيون من مختلف الإدارات يلتقون قرب مكتب البريد في الظهران، لتبادل التحايا وأخبار الوطن ومن سافر ومن عاد من الزملاء، وكانت المعلومات عن سفر زملاء العمل الى السودان من أهم الأخبار التي تعنينا، لأن كل مسافر إلى الوطن كان يحمل معه عشرات الرسائل والتحويلات المالية، فقد كان ذلك زمن البريد السلحفائي حيث يستغرق عبور الرسالة البحر الأحمر من السودان إلى السعودية وبالعكس قرابة اسبوعين، وبالتالي كان الحرص على إرسال وتسلم الرسائل بـ «اليد»، ويا ما عانيت وعانى غيري من هذه المهمة، فقد كنت أحيانا أزور السودان في إجازة خمسة أيام أكون خلالها مطالبا بتوصيل رسائل وهدايا لعائلات موزعة في أركان عاصمتنا ذات المدن الثلاث، وبعدها كان علي أن أزور بعض تلك العائلات لأتسلم منها ما تريد ارساله لمن يعمل في أرامكو.
من التقاليد السودانية الراسخة ما يسمى بـ «الصندوق / الختة» وهو ما يسميه المصريون «جمعية»، وهي ان يتفق مجموعة من الناس على دفع مبلغ معلوم كل شهر على أن يستفيد المشاركون من اجمالي المساهمات بترتيب متفق عليه، وهذا تقليد حميد يعفي الناس ذل الاقتراض من البشر والبنوك، وكثيرا ما يتم الشروع في تأسيس صندوق استجابة لمناشدة من شخص مزنوق، ومثل هذا الشخص تكون من نصيبه ما نسميه «الصرفة» اي الدفعة المالية الأولى، وكعادة السودانيين في المهاجر كنا نحن العاملين في أرامكو نتواصل بانتظام في الأمسيات وعطلات نهاية الأسبوع، بل كنا أحيانا نسافر للقاء زملاء لنا في أماكن خارج الظهران مثل الإحساء وبقيق ورأس تنورة والعضيلية، وذات مرة جاءني اثنان من الأصدقاء في بيتي في الظهران، وتحدثوا طويلا عن أهمية أن يكون لكل مغترب منا مدخرات لعمل مشروع يدر عليه عائدا في الوطن، واقترحوا إنشاء «صندوق»، يشارك فيه عشرة أشخاص بألفي ريال شهريا ويكون نصيب الفرد عندما يحين دوره 20000 ريال، وبلا أدنى تردد قلت لهم إن الفكرة سخيفة لأننا خارج الوطن ولا أحد منا يعرف هل سيستمر في العمل أم سيتم إنهاء خدماته بعد أسبوع أو شهر او شهرين.
المهم رفضت الفكرة وساروا قدما في مشروع الصندوق، وبعدها بنحو شهرين تم إنهاء خدمات من نال «الصرفة» الأولى، وبكل شهامة تنازلوا له عن نصف المبلغ على ان يدفع النصف الآخر من مكافأة نهاية الخدمة، وبعدها بكذا شهر قبض أحدهم نصيبه وسافر إلى السودان ولم يعد، وانقطعت أخباره عنا، ثم سمعنا أنه تزوج ولكن درجته الوظيفة لم تكن تسمح له باستقدام زوجته الى السعودية فقرر البقاء في السودان، فقال شركاؤه في الصندوق «البقاء لله»، فلم تكن لديه موارد في السودان ليسدد حصته في «الصندوق»، والخلاصة هي أن السودانيين في أرامكو ظلوا سنوات يقولون «والله جعفر دا ابن الذين.. كان فاهم الشغلانة»، وبعدها لم يتورط سوداني في أرامكو في صندوق أو أو علبة فيكس.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]