جعفر عباس

عَلّموني ولم يسألوني عن شهادة

[JUSTIFY]
عَلّموني ولم يسألوني عن شهادة

استفدت كثيرا من تقاليد العمل الصارمة في شركة أرامكو، وفيها تعلمت أن أعطي الأولوية للعمل، وبعدها أفكر في كيفية تزجية الوقت، ولحسن حظي كانت بالشركة مكتبة ضخمة، وكنت أستلف منها عدة كتب وإذا فرغت من عملي عكفت على القراءة، وأنا جالس إلى مكتبي، لأن الشركة ليس فيها نظام لف ودوران في المكاتب، ولا مجال فيها لبحث لماذا فاز نادي البطيخ على برشلونة، ووجدت في تلك المكتبة كتبا نادرة عن تاريخ السودان باللغة الإنجليزية، وطبعا بعضها غير موضوعي وغير دقيق في تناوله لبعض الوقائع، ولكنها عموما أكثر دقة وموضوعية من الكتب التي ألفها بعض المؤرخين السودانيين، بل إن الكثير مما نقرأه عن وقائع عايشناها وعاصرناها في تاريخ السودان الحديث، يتم تحريفه بطريقة احترافية، من قبل أشخاص يحتمون خلف ألقاب مثل «دكتور/ بروفسر»، بل بلغت الوقاحة ببعض الإعلاميين في السودان وغير السودان أنهم يقلبون حقائق أمور حدثت قبل أشهر.
ورغم أنني لم أقض فترة طويلة في أرامكو، إلا أنني تعلمت فيها الترجمة على أصولها، وقبلها كنت مترجما في السفارة البريطانية في الخرطوم ولكن معظم المواد التي كنت أترجمها كانت ذات طابع صحفي وتحتمل الترجمة الحرة (فري free)، التي تعطيك هامشا لتزوغ من الكلمات الصعبة، أو التي ليس لها مقابل مباشر في هذه اللغة أو تلك، فمثلا إذا كنت مطالبا بترجمة عبارة «عن بكرة أبيهم» إلى الإنجليزية فإن القاموس سيهبِّل بك اي يجعلك تبدو أبلها وعبيطا، وعليك أن تأتي بالإنجليزية بما معناه «جميعهم»، أما عبارات ومفردات مثل «ضخم الكراديس»، و«على نفسها جنت براقش»، و«مياسة القد غراء فرعاء مصقول عوارضها»، فعليك ان تتصرف بمزاجك وتكتب مقابلها «ما بدا لك».
وكان أكثر ما لصق في ذهني من تجربتي العمل كمترجم في السفارة البريطانية في الخرطوم وأرامكو بالسعودية، أن أيّاً من الجهتين لم يسألني عن أي شهادة أكاديمية، وحدث لي نفس الشيء عندما التحقت بتلفزيون بي بي سي العربي، وبالمقابل لا أعرف جهة يديرها عرب إلا وسألتك عن شهاداتك المدرسية والجامعية والتي لابد أن تحمل أختام كذا سفارة وكذا وزارة خارجية، لأن التعويل والرّك ليس على الخبرة والكفاءة ونتائج الاختبارات بل الشهادات المبروزة، ولو قدمت طلبا للتدريس في روضة أطفال وأنت تحمل بكالوريوس تربية، فقد تطير منك الوظيفة إذا نافسك فيها شخص يحمل ماجستير في الجيولوجيا، وتعمل لدى جهة عربية 15 سنة بكفاءة واقتدار دون ان تنال ترقية، و«أنت عارف ظروف الميزانية وضغط المنصرفات»، ثم يغيب لشهرين زميلك الذي ظللت تدربه على ابجديات العمل طوال سنتين حتى أصبت بورم في الطحال وامتلأت مرارتك بالحصى، ويعود ملوّحا بماجستير.. من فين؟ مش مهم.. وفي ماذا؟ مش مهم، ولكنه يترقى ويصبح رئيسك لأنه ما يصير واحد ببكالوريوس يكون أعلى درجة من حامل الماجستير حتى لو كان صاحبنا هذا أيضا من فئة الحمار الحامل أسفارا!
وأتوقف قليلا لمناشدة السلطات لشن حملة لمكافحة وباء الماجستير الذي تفشى في الأوساط الشبابية، فمن الواضح ان الحصول على تلك الدرجة صار أسهل من الحصول على «تطعيم» الإنفلونزا الشتوية، لأن هناك جامعات عربية تعطيك ماجستير من الوكالة لو دفعت المعلوم، بل أعرف شخصا يقيم في بريطانيا ويكسب رزقه من كتابة رسائل الماجستير في الإدارة والتجارة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس التربوي، بينما هو لا يحمل سوى بكالوريوس تاريخ.. ولكن «البركة» في الإنترنت ومن يدفعون له الآلاف المؤلفة لا وقت لديهم لنبش الانترنت ولا يملكون مهارات كط آند بيست / اقطع والصق.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]