باي أرامكو.. هلا سودان
لم استمر طويلا في العمل في أرامكو، لعدة أسباب، كان أولها أنني كنت أحس بحزن شديد لفراق السودان، وأن المسألة لا تستأهل الهجرة، بمعنى أنني كنت قادرا في السودان على كسب القوت والعيش، وأنا أعيش وسط أهلي وأحبابي، وثانيها أن الأمريكان كانوا كاتمين على نفس غير الأمريكان بمن فيهم السعوديين في الشركة، وفوجئت بأنني أستطيع فقط استقدام زوجتي مرتين في السنة على ان تستغرق كل زيارة لها ثلاثة أشهر فقط، بينما الأمريكاني الصائع يستطيع أن يستقدم صديقته لتقيم معه في مساكن الشركة اي مدة تريد، بل كان للأمريكان في أرامكو قسم رواتب خاص، وفهمت من جاري الأمريكي أن أرامكو تورد راتبه ورواتب بقية الأمريكان في بنوك في الولايات المتحدة، وتعطي الواحد منهم طوال عمله في الشركة «بدل شِدّة» وكان ذلك البدل كبيرا بدرجة ان الواحد منهم كان يوفر جزءا كبيرا منه بعد الانفاق على الطعام والشراب و… الشراب «فهمت لماذا كررت الكلمة؟»
واستقدمت زوجتي وأقامت معي في فيلا من طابقين في الظهران هيلز، وبنهاية المدة القانونية لزيارتها، قلت للشركة باي باي، وتكفلت الشركة بتوصيل كل أمتعتي بما فيها أواني الطبخ، حتى بيتي في الخرطوم بحري، وعدت الى السودان، ووضعت الدولارات التي كانت معي في كيس المخدة، وركلست (كلمة سودانية مشتقة من ريلاكس relax الإنجليزية) اي استرخيت بلا شغل او مشغلة، سوى ملاعبة طفلي البكر، ثم قررت البحث عن عمل، ولم أفكر قط في العودة الى التلفزيون، أو وزارة التربية، بل توجهت الى المدارس الثانوية الخاصة، وكان الوضع التعليمي وقتها عكس ما هو حادث اليوم، فقد كان التعليم الخاص لذوي المجاميع الضعيفة نسبيا، بينما صارت المدارس الحكومية اليوم ملاذ الفقراء الذين لا طاقة لهم بالرسوم الدراسية الباهظة للمدارس الخاصة التي تقدم تعليما أفضل مما تقدمه الدولة في مدارسها التي تقول إن الدراسة فيها مجانية ثم تفرض كل مدرسة على أولياء الأمور مصاريف أسبوعية تغطي فيما تغطي كلفة شراء الطباشير إذا كانت بالمدرسة سبورات.
وتلقيت عرضا من مدرسة الراهبات الثانوية للبنات، وهي مدرسة مشهورة ومشهود لها بالكفاءة وحسن ضبط الامور، وجمال المباني والحدائق، ولكنهم عرضوا علي راتبا غير مغر مع وعد بأن يتم تعديل الراتب بعد فترة اختبار، فقلت للمديرة إنني مدرس ذو خبرة وإنني أعرف أنه لو قبلت ذلك الراتب فقد أتدبس فيه لسنوات، وبما ان الراهبات لا يعرفن سياسية «يفتح الله يستر الله» التي نستخدمها نحن في المساومة، فطلبت مني المديرة أن أفكر في العرض ثم أعود إليها لاحقا فتوجهت إلى باب مكتبها ثم التفت الى الخلف وقلت لها: فكرت في العرض ولن أقبله وخرجت الى شارع النيل القريب، وفوجئت بشخص يناديني باسمي فإذا به الاستاذ عبدالفتاح عيسى أحد المسؤولين عن التعليم في المرحلة الثانوية في وزارة التربية السودانية فتوجهت نحوه وصافحته بحماس صادق رغم أنه زور من قبل توقيعي على مستند رسمي، وكنت بعد خروجي من السجن مطالبا بالمثول أمام مجلس تأديب وكتابة تعهد بعدم معاداة الحكومة ورفضت ذلك ليس فقط من باب «البطولة» ولكن ولانني وخلال فترة سجني وبعدها ظللت اتقاضى راتبي الاساسي كاملا، وأنا متستت في البيت، فما كان منه واستاذي حمزة مدثر إلا أن زورا محضر مجلس التأديب ثم توقيعي على التعهد. المهم أنه فاجأني بكلام غريب: أوع ترجع وزارة التربية ومدرسة الكنيسة الاسقفية في ام درمان دتبحث عن مدرس لغة انجليزية فاذهب اليهم وراتبك مائة وكذا جنيه.. وهذا اللي صار.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]