في طفولتنا كان لغز الموت يشكل سُحب من علامات الإستفهام تتزاحم فوق أفق خواطرنا، كلما ذكر هذا الكائن الذي يطوي الأحباب تحت جناحه ثم يذهب بهم إلى حيث اللا عودة، وكان الخوف والقلق يعتصر قلوبنا الغضة كلما دنا وإختطف حبيبا أو قريب من حولنا، ولكن بستثناء ذلك، فقد كنا علي غبانا نجعل من الموت مادة لسمرنا وألعابنا، ومن ضمن تلك الألعاب كنّا نختار واحدا ليمثل دور الميت فيتمدد متخشبا ونقوم بتغطيته ثم نجتهد في محاولة دفعه لإصدار حركة بـ (الكلكلة) حتى يكاد يموت ضحكا، أما أحب تلك الألعاب فكانت عندما نقوم بتمثيل بيت البكا حيث نقوم بالتلفلف بثياب أمي، ثم نحيط بمن يقع عليها الإختيار لتمثل دور صاحبة الوجعة، ونضع أيادينا على رأسها ونبدأ في النوناي المموسق حتى تأتينا نهرة حارة بـ :
فال الله ولا فالكم يا شفع بتنونو دايرين تكتلو لينا منو ؟!!
وعندما تمر بالقرب منّا جنازة محمولة على الأعناق أثناء لعبنا بالقرب من البيت، كنّا نكّف عن ما نفعل إحتراما، ثم نتقابل كل إثنان يواجهان بعضهما ونرفع أيادينا بالفاتحة على المرحوم، رغم أن البعض منّا لم يكن يعلم ما يقال فيصدر من فمه صوت هسهسة كـ (بست . بست) ..
مازلت أذكر عندما توفيت جدتي والدة أعمامي زوجة جدي حيث توفت بالمستشفى ثم أحضر الجثمان لبيتنا كي يجهز قبل السفر لدفنها في ود مدني حسب وصيتها، فكنت أتسلل من وراء الكبار لأراقب الجثمان المسجي وأحتار كيف أن جدتي تتمدد مغطاة دون حراك وعمتي بجوار رأسها تبكي وتوصف بصوت حنين:
الليلة يا أم كمال الدين يا المسّختي السنين .. الليلة يا أم عثمان يا المسّختي الزمان.
فتنتابني حالة من الإشفاق على عمتي مخلوطة بإعجابي بغنائها الحنون كما كنت أحسبه .. ظللت أراقب الموقف حتى حضر اللوري الذي إستأجره أبي لحمل الجثمان فخرجت هاربة لا ألوي على شيء وإختبأت خلف باب بيت الجيران أراقب الموقف من بعيد ومعي واحدة من بنات الجيران كانت تسألني بفضول عن أصغر أعمامي الذي كان شابا لم يتزوج وقتها !!
ثم توفت بعدها بسنوات إحدى بنات أعمامي في المستشفى وأحضر الجثمان للبيت قبل السفر أيضا .. كنّا في طور الصبا وقتها وإختلفت ردود أفعالنا مع الفقد الإليم، فما أن غادر والداي وشقيقاتي الكبيرات مع الجثمان بعد منتصف الليل وتركونا وحدنا، حتى تكومنا في أحد أركان الغرفة وظللنا ساهرين في رعب حتى الصباح ونحن نراقب العنقريب وبقايا (البرود) التى تركت هنا وهناك بفعل الإستعجال .. وحتى بعد مرور شهور على الحادثة كنّا نتجنب النوم في غرفة الجنازة كما أسميناها وحتى عندما تجبرنا شقيقاتي الكبيرات على النوم فيها بقفلها علينا بالمفتاح كانت شقيقتي الأصغر تتسلق النافذة و(تطفر) للخروج منها بجلدها، بينما نتصبر نحن ونقضي ليلتنا (نسوي في إنّا لله)
عادة، عندما يسأل الأطفال عن غيبة فلان الذي غيّبه الموت، تأتيهم الأجوبة من الكبار مبهمة لا تبل أشواقهم للمعرفة بل تزيد طين الغموض بلّة:
حبوبة مشت السما .. جدو ربنا حباهو وساقو الجنة
فعندما هطلت الأمطار بغزارة ذات ليلة ظّل ابن إحدى صديقاتي يراقب نزولها بإهتمام، وعندما طال إنتظاره وفاض به الكيل نادى على أمه:
يا ماما .. مش ناس جدو حا يجو واقعين هسي مع المطرة ؟!!
سألته عن السبب في ظنه هذا، فأخبرها بوجهة نظره:
مش قلتو جدو مشى السما .. هسي حا يكون قاعد في السحابة وحا يجي واقع مع المطر !!
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com
