منى سلمان

يا جاري من الموت .. الموت وراك

[B][ALIGN=CENTER][SIZE=4][COLOR=darkblue]يا جاري من الموت .. الموت وراك ![/COLOR][/SIZE][/ALIGN][/B] في صغري كنت كثيرا ما أسمع حكمة (يا جاري من الموت .. الموت وراك) تجري على لسان أمي .. ورغم أن الحكمة المثل تطلق للتعبير عن وقوعك في أمر تكرهه رغم حرصك على وضع المحاذير والتحوطات لمنع ذلك، لأن هذا الأمر هو قدر حتمي كقدر الموت الذي يلحق بك مهما اجتهدت في الهرب منه، ولكن كنت كلما أسمعها يتبادر إلى ذهني صورة رجل يجري بخوف بينما يطارده كائن أسود مخيف يسعى لخنقه حتى (يبتبت) وتخرج روحه .. ذلك الكائن الأسطوري كان هو الموت كما كنت أتخيّله في صغري !
في طفولتنا كان لغز الموت يشكل سُحب من علامات الإستفهام تتزاحم فوق أفق خواطرنا، كلما ذكر هذا الكائن الذي يطوي الأحباب تحت جناحه ثم يذهب بهم إلى حيث اللا عودة، وكان الخوف والقلق يعتصر قلوبنا الغضة كلما دنا وإختطف حبيبا أو قريب من حولنا، ولكن بستثناء ذلك، فقد كنا علي غبانا نجعل من الموت مادة لسمرنا وألعابنا، ومن ضمن تلك الألعاب كنّا نختار واحدا ليمثل دور الميت فيتمدد متخشبا ونقوم بتغطيته ثم نجتهد في محاولة دفعه لإصدار حركة بـ (الكلكلة) حتى يكاد يموت ضحكا، أما أحب تلك الألعاب فكانت عندما نقوم بتمثيل بيت البكا حيث نقوم بالتلفلف بثياب أمي، ثم نحيط بمن يقع عليها الإختيار لتمثل دور صاحبة الوجعة، ونضع أيادينا على رأسها ونبدأ في النوناي المموسق حتى تأتينا نهرة حارة بـ :
فال الله ولا فالكم يا شفع بتنونو دايرين تكتلو لينا منو ؟!!
وعندما تمر بالقرب منّا جنازة محمولة على الأعناق أثناء لعبنا بالقرب من البيت، كنّا نكّف عن ما نفعل إحتراما، ثم نتقابل كل إثنان يواجهان بعضهما ونرفع أيادينا بالفاتحة على المرحوم، رغم أن البعض منّا لم يكن يعلم ما يقال فيصدر من فمه صوت هسهسة كـ (بست . بست) ..
مازلت أذكر عندما توفيت جدتي والدة أعمامي زوجة جدي حيث توفت بالمستشفى ثم أحضر الجثمان لبيتنا كي يجهز قبل السفر لدفنها في ود مدني حسب وصيتها، فكنت أتسلل من وراء الكبار لأراقب الجثمان المسجي وأحتار كيف أن جدتي تتمدد مغطاة دون حراك وعمتي بجوار رأسها تبكي وتوصف بصوت حنين:
الليلة يا أم كمال الدين يا المسّختي السنين .. الليلة يا أم عثمان يا المسّختي الزمان.
فتنتابني حالة من الإشفاق على عمتي مخلوطة بإعجابي بغنائها الحنون كما كنت أحسبه .. ظللت أراقب الموقف حتى حضر اللوري الذي إستأجره أبي لحمل الجثمان فخرجت هاربة لا ألوي على شيء وإختبأت خلف باب بيت الجيران أراقب الموقف من بعيد ومعي واحدة من بنات الجيران كانت تسألني بفضول عن أصغر أعمامي الذي كان شابا لم يتزوج وقتها !!
ثم توفت بعدها بسنوات إحدى بنات أعمامي في المستشفى وأحضر الجثمان للبيت قبل السفر أيضا .. كنّا في طور الصبا وقتها وإختلفت ردود أفعالنا مع الفقد الإليم، فما أن غادر والداي وشقيقاتي الكبيرات مع الجثمان بعد منتصف الليل وتركونا وحدنا، حتى تكومنا في أحد أركان الغرفة وظللنا ساهرين في رعب حتى الصباح ونحن نراقب العنقريب وبقايا (البرود) التى تركت هنا وهناك بفعل الإستعجال .. وحتى بعد مرور شهور على الحادثة كنّا نتجنب النوم في غرفة الجنازة كما أسميناها وحتى عندما تجبرنا شقيقاتي الكبيرات على النوم فيها بقفلها علينا بالمفتاح كانت شقيقتي الأصغر تتسلق النافذة و(تطفر) للخروج منها بجلدها، بينما نتصبر نحن ونقضي ليلتنا (نسوي في إنّا لله)
عادة، عندما يسأل الأطفال عن غيبة فلان الذي غيّبه الموت، تأتيهم الأجوبة من الكبار مبهمة لا تبل أشواقهم للمعرفة بل تزيد طين الغموض بلّة:
حبوبة مشت السما .. جدو ربنا حباهو وساقو الجنة
فعندما هطلت الأمطار بغزارة ذات ليلة ظّل ابن إحدى صديقاتي يراقب نزولها بإهتمام، وعندما طال إنتظاره وفاض به الكيل نادى على أمه:
يا ماما .. مش ناس جدو حا يجو واقعين هسي مع المطرة ؟!!
سألته عن السبب في ظنه هذا، فأخبرها بوجهة نظره:
مش قلتو جدو مشى السما .. هسي حا يكون قاعد في السحابة وحا يجي واقع مع المطر !!

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com

‫8 تعليقات

  1. اختي المنينه بت عشه ام الرير طبعا الحريم لما يكون في بكا ما يجوا راجعين الا عند رجوع العنقريب من المقابر وبعدها تبداء الشمارات والمراقبه من اهل الميت الجا من الما جا .ان شاء الله تكون بيت الجيران من نصيب عمك .انتي كنتي بتراقبي بطريقة وبت الجيران عازوة تضرب عصفورين بحجر بكا وعرسا ونقول الموت علينا حق. تحياتي

  2. لك الود الدكتورة بت سلمان …
    والله الذى لا اله الا هو ,, لمن وصلت الليلة يا أ م كمال الدين يا المسختى السنين
    الليلة يا أم عثمان يا المسختى الزمان …. الغصة طعنت فى الحلق وباقى لى شوية
    من البكاء … واحدة واحدة علينا يابت سلمان قلوبنا رهيفه شديد …

  3. استاذة منى تحية وتقدير
    الموضوع مؤثر وفيه لمسة من الحزن والواحد استرجع ذكريات بالغة الحزن فى فقد الاحباب خاصة ايام الطفولة
    لكن خلينى اطلع برة الموضوع فى زمن الثانوى كنا نكتب معلقين على بعض اعمده الصحف ونرسل مانكتبة عبر البريد وننتظر فترات طويلة عسى ولعل ان ترد اشارة من محرر العمود بأنه تلقى رساله من فلان ولانطمع فى اكثر من ذلك وفى سبيل هذه الغاية نجتهد فى تجنب الاخطاء الاملائية والانشائية حتى لا ترمى الرسالة فى سلة المهملات اما الان فى زمن النت (اتلخبطت الكيمان) اى شخص وبمنتهى السهولة يمكنه أن يكتب مايشاء وفى لمح البصر يجد كلماته قد اصبحت متاحه للجميع
    خلاصه القول ربنا يعينك على اعداء النجاح الذين يكتبون معلقين وفى انفسهم شئ من الحقد

  4. في البدء نسأل الرحمة لجدتك وبنت عمك ولموتانا وموتى المسلمين أجمعين قولوا آمين وكثيرا ما كنت أستغرب في صغري للنهنهات التي تصدرها الحريم في ساعة الجنازة وبعد الدفن هاك يا ونسة وقطيعة وكأنه ما في حاجة والغريب عن النساء لو لاحظتي يا أستاذة دائما يسألن المات منو ؟ كأنه الموت مخصص للرجال فقط أما عن إندهاش الأطفال وسؤالهم المتكرر الذي لا يجد إجابة شافية تستوعب فهمهم الكبير ليست في الموت فقط بل تأتي الأسئلة في كيفية مجيئة وكيف جاء أخوة أو أخته ولا يجد إجابة غير أني بلعتك في بطني أو بلعتها في بطني وإجابات هايفة

  5. والله يامني لفتي النظر في الفقرة الاخيرة لموضوع مهم وهو ضرورة أن نشرح للطفل ماهية الموت وكونه احد سنن الكون الذي لامفر منه وكيف أن هنالك حياة أخري أبقي وأجمل لمن يعمل لها وأعتقد كدة حنربيهم علي أن الدنيا دار فناء والاخرة هي دار البقاء بكل ماتحمل من تصور جميل لمن ادخر لها من عمل … اللهم قيض لنا حسن الخاتمة يارب – امين – .

  6. والله يا ام ندى فكرة تشرحى للاطفال ماهو الموت وأن هنالك حياة افضل وأبقى وأجمل وما الى ذلك فكرة ممتازه لكن ما تكتري ليهم منها عشان ما يطلعوا ارهابيين .

  7. سبحان الله موقف الموت صورته تختلف من شخص لشخص باختلاف الاعمار والبيئة والحالة النفسية الى اخره، مثلا هنالك من الاطفال من يفرحون به، لأنه سبب فى لمة الأقارب وفرصة للعّب مع الأطفال ولا يفكرون بمصير الميت، ومنهم الأكبر سنا يكرهونه لأنه سبب فى فراق عزيز فقد وليس اعتراضا على سنة الله فى الكون ، وبين هذا وذاك الكثير من التصورات . الموت علينا حق ، وقدر مكتوب علينا بارادة الله. اللهم حسّن نوايانا و اختم بالصالحات أعمالنا، واغفر لموتانا وجميع موتى المسلمين. بارك الله فيك أستاذة منى، وعذرا على الأخطاء الاملائية، لوحة المفاتيح انجليزى ، والتعليق على عجل، وشكرا.