منى سلمان

الشاكي دقس


يقال أن خوض تجربة السجن ليست كغيرها من التجارب، فهوليس مجرد مكان يقيم فيه الإنسان لفترة من الزمن أو مشوار يقضيه ثم يعود، فتجربة دخول السجن حالة خاصة جدا مثل تجربة خوض الحرب، فالإنسان إذا دخل الحرب يخرج منها بتجربة ربما يمضي حياته كلها وهو يتحدث عنها دون أن يستطيع التخلص من تراكماتها وآثارها على حياته.

يقول المصريين (السجن للجدعان) ونقول (السجن للرجال) وما ذاك إلا محاولة لتحلية مرارة تقيد الحرية وفقدان أهلية التصرف وفق ما نحب وكيفما نشتهي ولا يزيده في المرارة إلا أن يكون السجن ظلما..

تتعدد الأسباب ولكن السجن مستحيل أن يكون (واحد) فهناك نوعين من أسباب دخول السجن وكل منهما يحدد تقييم التجربة، فهنا يصح ان نقول (سجن لـ سجن يفرق).. سجن يضيف لرصيد المسجون كالسجن بسبب الإختلاف في الأفكار والمعتقدات والرؤى السياسية ومعارضة الانظمة وتجاوز خطوطها الحمراء، فأيام السجن حينها تصير نوع رفيع من الأوسمة على صدر المسجون وترصد في سجلات مجاهداته وثباته على مواقفه، وهناك سجن لاسباب تتعلق بالشرف وسوء التصرف والخروج على القانون للسير في دروب الندامة الآخرتا (بطانية وجردل).

في رواية إحسان عبد القدوس (نائب عزرائيل) يعود البطل للحياة مرة أخرى بعد وفاته نتيجة خطأ تقني، ولكنه يفاجأ بأن أهله قد إنشغلوا بحياتهم ولم يعد له مكانا بينهم، بل وتيقن من ان عودته سـ (تخرب) على بعضهم وتلخبط حسابته .. وكذا حال السجين عندما يطول سجنه لسنوان طويلة، فتتأقلم حياة أسرته وتتعود على غيابه وتشغل الفراغ الذي خلّفه بغيره، ولذلك تكون عودته أمرا غير مرحب به خاصة إذا كان من الفئة الثانية من المساجين الذين سجنوا نتيجة الأفعال المخلة .. اذكر انني سمعت قصة تطابق هذا المفهوم، عندما اشارت بعض رفيقات دراستي لرجل اشيب وقور (لا يبدو انه يعاني من اي عوجة) جاء لزيارة كليتنا ذات نهار، وكم تأثرت عندما علمت منهن أن لاسرته تاريخ مرير حيث قامت والدتهم بقتل والدهم، وحكمت نتيجة فعلتها بالمؤبد أو مدى الحياة، ولكن ذلك (المدى الابدي) مرت ايامه كالخيال احلام لتخرج بعده لتجد دنيا غير الدنيا التي تركتها، واناس غير الذين عرفتهم، حتى اطفالها الذين تركتهم زغب الحواصل، وجدتهم وقد صاروا رجالا ونساء لكل منهم حياة ليس فيها مكان لها، فتاهت بين البيوت والطرقات حتى توفت مقهورة منبوذة ..

من جانب آخر، هناك فئة ممن يعانون في حياتهم من الشظف وضيق العيش وعدم وجود ملجأ يلوذون به، من المشردين وابناء الشوارع، فيكون الحكم بالسجن لهم بمثابة طوق النجاة من مشقة العيش، فعلى الأقل يوفر عليهم مشقة البحث عن الطعام والملجأ.

حكى لي أحد اقربائي من تجار سوق أم درمان عن السجن الجديد الذي أقامته الحكومة شمال غرب أم درمان، على أعلى درجات المواصفات العالمية وراعت فيه راحة النزلاء لأقصى درجة، فلكل نزيل سرير ومرتبة وحمامات صحية نظيفة وثلاثة وجبات كاملة غير وسائل الترفيه والتلفزيون حتى أن المساجين سموه (الشاكي دقس)، فبعد أن كانت الإقامة في السجن هما لأصحاب الشيكات الطائرة والبيعات الكاسرة، أصبحت رفاهية وسعة عيش يحسدهم عليها الدائنون واصحاب الحقوق الذين لم يعد أمامهم إلا أن يشكو لله التعب والشلهتة وراء حقوقهم بينما يرفل الدائنون في نعيم (الشاكي دقس).

تخريمة جوة الموضوع:

وردتني بعض الاستفسارات الشمارية عن حكاية (الشاكي دقس)، التي وردت في مادة سابقة مما استوجب لزوم ما يلزم من التوضيح .. شفتوا كيف ؟!!
(أرشيف الكاتبة)