منى سلمان

جوازي الخير


لم يكن (عز الدين) يحتاج لأن يشاور قلبه، أو يستعين بصديق، عندما قرر أن يتخلى بكامل ارادته وبعزم المتيقن، عن مقعده في مدرسته بالصف الثاني ثانوي عالي، وينطلق للمنطقة الصناعية ليبحث بين ورشها ومصانعها عن موطئ قدم، ومصدر رزق يعين به والده على مشقة قلة الرزق وكثرة العيال، وليسهم بدخله المحدود كصبي في ورشة للنجارة، في اطعام الافواه الجائعة والايدي الصغيرة الممدودة في كل صباح، تطالب والده بحق الفطور ..
كان ذلك القرار في اوائل السبعينات، حين انحاز (عز الدين) لخيار التضحية بأماني النفس وتطلعات المستقبل، في سبيل ان ينشأ اخوته ويتعلمون كغيرهم من الانداد، ولم يكن تصرفه الشهم هذا بمستغرب، مع عرف تعودت عليه الاسر ذات الدخل المحدود والمهدود، فطبع النخوة والخوة الـ (ما مشحودة)، يلزم (بكر البيت) بالتضحية لنصرة ابيه في مواجهة الالتزامات المادية المتفاقمة، مع ورود كل طفل جديد وتدرج سابقيه في مقاعد الدراسة ..
مرت سنوات كبر فيها الصغار وتتالى تخرجهم من الجامعات، وبحثوا لاقدامهم لموضع (ماهية) في ارض الخدمة المدنية، وتتدرجت الخبرة واتقان الصنعة فيها بـ (عز الدين) من صبي نجار لواحد من كبار الصنايعية .. خلال تلك السنوات تزوج من سيدة من اسرة كريمة مستورة حال، تفهمت وضعه وارتضت ان تبدأ معه المشوار في غرفة صغيرة جانبية ضمن منزل الأسرة .. ثم مرت سنوات توفى فيها الوالد، وتزوج الاخوان والاخوات بدفعات معتبرة من كبير البيت، على الرغم من تثاقل ظهره بحمالته الخاصة من العيال، ثم كانت أن توفيت الوالدة بعد أن اقر الله عينها برؤية أصغر بناتها تزف لبيت الحلال ..
لأول مرة منذ سنوات شعر (عز الدين) بالطمأنية والاستقرار، فهاهو قد أوفى بما عاهد عليه نفسه وانجز مهمته على خير ما يرام، واوصل جميع اخوته واخواته إلى بر الأمان، ولكن هل رست سفينته الشخصية – طويلا – في بر الأمان ؟ فمع مرور السنوات وتصاعد الغلاء وضيق المعايش تقاصر عائده من عمل الورشة، عن ملاحقة متطلبات تعليم ابناءه والايفاء بمأكلهم ومشربهم، ثم جاءته الضربة القاصمة عندما حاصرت –نفس المعايش الجبارة – اشقاءه، وتقاصرت مواهي الحكومة عن سد رقعة العيش حتى نهاية الشهر، فتلفتوا بحثا عن معين لتمويل مصدر دخل اضافي يستعينوا به على قضاء الحوائج، فلم يجدوا غير بيت الاسرة .. اتفق الجميع على بيع البيت، وطلبوا من (عز الدين) على اسحياء ان يتصرف ليجد له بيت ايجار يأويه، حتى يتمكنوا من اكمال البيعة وتقاسم ورثتهم ..
رغم الحزن وألم الجرح من سكين العقوق والنكران، ابى (عزالدين) ان يقف في وجه رغبات اخوته، بل عزى نفسه بضرورة تفهم ظروفهم، فسعى معهم حتى أتم الامر واستلم كل منهم نصيبه كاملا غير منقوص ..
ثم حمل نصيبه الذى لم يمكنه إلا من شراء قطعة أرض في احدى المربعات الطرفية، بعد ان انتقل لنصف بيت توفق في ايجاره في نفس حيهم القديم، وليس له في مواجهة المستقبل المظلم، سوى العشم في رحمة الله ودخله الذي لم يكن بقادر على الايفاء بمستلزمات العيش قبل ان يضاف عليه ثقل الايجار ..
لم يكن أهل الحي بمنأى عن ما يجري مع جارهم الاصيل، فقد كان طوال سنين حياته بينهم .. صديق وقت الضيق، غياث للملهوف، سباق لمد يد العون لكل صاحب حوجة من الجيران .. تجمع المصليين بمسجد الحي – الذي لم يمنع (عز الدين) من صلاة المغرب والعشاء فيه جماعة – إلا الشديد القوي .. اتفق الجميع على (مخاتتة) حق الايجار لمدة ستة اشهر لنصف البيت الذي انتقل إليه، ثم ذهب به وفد منهم لصاحب البيت ليدفعوه له، ولكنه فاجأهم بكرم يفوق كرمهم، فقد حلف من استلامه وتعهد باستضافة (عز الدين) مجانا، حتى يتمكن من بناء قطعته والانتقال إليها ..
بعد المشاورات اتفقت لجنة المسجد على عدم اعادة النقود لاصحابها والقيام بشراء طوب واسمنت تدفع بمشروع البناء بضع خطوات .. اتفقوا مع صاحب المغلق وحملوا المواد على شاحنة وذهبوا بها لموقع القطعة ليجدوا أمامهم مفاجأة قوية، فقد كان هناك مقاول وعمال يقومون ببناء القطعة !!
بين الشك في مقالب السماسرة والخوف من بناء العشوائي، استفسر الرجال من المقاول عن صاحب القطعة، فأفتاهم بأنها للمدعو (عز الدين) الذي يسكن في الحي الفلاني، ثم اوضح لهم أن فاعل خير قد اتاه واستخدمه لبناء غرفتين (خلف خلاف) بمنافعهم وتسليمهم لصاحبها، شريطة بقاء اسم المحسن طي الغفاء لا يعلمه سواه من بعد الله !!
حتى اليوم لم يعلم أحد من هو ذلك المحسن .. وان حامت الشكوك حول احد الاثرياء من ابناء الحي، صرح غير مرة بحزنه وشعوره بالاسف لما حدث لـ (عز الدين) وان فعل الخير لا يعدم جوازيه.
(أرشيف الكاتبة)