عبد الجليل سليمان

الأصول.. حين تتحرر من العوارض 1- 2


[JUSTIFY]
الأصول.. حين تتحرر من العوارض 1- 2

كل أزماتنا من صنع أيدينا، لكننا لا نعترف بذلك إلاّ لماماً، وتحت الضغط العالي، ثم ما نلبث أن ننسحب مُخلفين بجانب الأكاذيب الكبيرة فجوة عمياء من انعدام الثقة، فلا أحد الآن- في الداخل والخارج – يصدق (بنعومة) وسهولة ما نقول ونكتب، كلهم يشككون بما ننتج من أطر سياسية وثقافية وفكرية (إن وجدت). كل شيء هنا، أقرب إلى التزييف، وأكثر بعداً عن الحقيقة المحضة، فالتاريخ والثقافة والفكر والأطر السياسية (البرامج)، كلها تبدو وكأنها أقوال أشبه بـ (ونسات) المقاهي.

لو فتحنا الملف هذا، لا نصعق الناس هوله، فحتى لغتنا المحكية اليومية التي ذهب كثيرون ممن (يليهم) أمرها، إلى أنها أقرب المحكيات إلى العربية الفصحى لا يفهمها أحد غيرنا ثم حين (نفاجأ) كعادتنا بذلك نهرف ونزعق في وجوه العرب العاربة والمستعربة، ونريد منهم (غصباً) عنهم أن يفهموا كلماتنا، ثم نضغط عليهم ضغطاً (يحنن) العدو قبل الصديق! وكأنما لسان حالنا يقول (أفهموني يا ناس وحنوا علىّ) ونعتذر لما ألحقناه بالأغنية الجميلة من تحوير.

تعرفون، لماذ يحدث لنا هذا؟ لأنهم بالفعل لا يفهمون (محكيتنا)، هم صادقون في ذلك، ولا سبب يجعلهم يدعون بغيره، لكن الأهم من ذلك أننا لا نكتفي بأن لا نصدقهم فحسب، بل نطالبهم بإلحاح غريب أن يفهموا (كلامنا) لأنه أقرب إلى الفصحى مما (يتذاربون) به هم أنفسهم!

أشعر شخصياً، بنوع مما يُطلق تزييف الوعي الجمعي، إزاء ذلك، وأمضي أكثر بأن هذا التزييف بلغ حداً مرعباً بحيث بتنا ننسب كل شيء إلينا وحدنا، وكأننا ننتج عاداتنا وثقافتنا وغنائنا ورقصنا معزولين عن ما وعن من حولنا، بل وكأننا ننتمي إلى ثقافة واحدة (قياسية)، وهذا خطل وتخليط وتزييف لا شك.

هل أضرب لكم الأمثال، لتدّكرون؟، إذن لا بأس، فلنبدأ بإيقاع (التم تم)، وأسطورة (أم بشاير وأو زوايد) الكوستاويتين (من كوستي)، اللتين بالفعل كانتا تؤديان على هذا الإيقاع القادم من غرب أفريقيا، ثم بعد أن طغى، أتحفنا جيش من الباحثين في الغناء والإيقاعات والثقافة السودانية بدراسات تؤكد – بشكل قطعي جازم ونهائي – سودانية محضة لهذا الإيقاع، والآن (وبعد التكريس المستمر للزييف) فإن الذي يقول بغيره يتعرض لـ (هرجة وهرشة) بالغتين.

يقول الشاعر الراحل (سنغور): “فجأة تسكن أجسادهم أرواح طبول التام – تام/ إيقاعها يسرع، يسرع/ والأجساد تتحرر من قيودها/ مثلما يتحرر من العوارض”، والتام تام هو هذا التُم تم (الكوستاوي زيفاً).

نخرج من هذا، لنشير إلى معاني بعض الأسماء المتداولة بكثافة في فضائنا الثقافي، مثل (القوني وهو حافظ القرآن، ومادبو وهو المؤدب، وألفا بمعنى الفقيه، وسيسي أي رجل الدين)، وكلها بلغة الفولان، كما أن الشلوخ (النقرابي) تعني الوسم (النيجرابي) ومنسوبة إلى النيجر. وكثير وكثير من اللغات التي تأثرنا بها وتغلغلت في محكيتنا العربية.

أسماء بشر ومدن وقرى، وإيقاعات ورقصات، نحرفها كي نقترب من (الفصحى)، ولكننا نجد أنفسنا وكلما غرقنا في التزييف أكثر، فقدنا احترامنا لذواتنا وفقدنا احترام الغير لنا، ثم نظل نهرج فيهم ويضحكون علينا.

[/JUSTIFY] عبد الجليل سليمان
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي