جعفر عباس

مع ألف باء الصحافة

[JUSTIFY]
مع ألف باء الصحافة

كنت عند التحاقي بصحيفة إمارات نيوز في أبوظبي، عديم الخبرة الصحفية، رغم أنني كنت قبلها قد نشرت قبلها العديد من المقالات، بعضها «أصيل» أي من بنات أفكاري وبعضها ترجمات من مجلات وصحف أمريكية وبريطانية، وكان مسمى وظيفتي في الجريدة «محرر – مترجم» ولكن لم يسبق لي قبلها ممارسة أي تحرير، والتحرير الصحفي غير التحرير «السوداني» الذي يتطلب حمل السلاح والدخول في معارك مع الجيش الحكومي أو بعض القبائل للمطالبة بتحسين أحوال إقليم معين، ولكن كل ذلك باسم «تحرير السودان»، بينما التحرير الصحفي يتطلب الإلمام بأصول صوغ الأخبار والتقارير، كأن يكون الاستهلال بأقوى وأهم العناصر، ثم المتن ثم الخاتمة/ النهاية إذا كان لا بد من خاتمة، ووضع عناوين جاذبة ولافتة للعيون ومحفزة للعقول، وللحرف العربي جماليات بلا نظير في أي لغة، وبإمكانك أن تضع عنوانا من كلمتين عربيتين بعرض 8 أعمدة صحفــية، فتستطــيــع مثـلا أن تكتـب الســودان «الس————ودان»، بينما شكل الحروف الإنجليزية لا يمسح بالمط، وبالتالي فالعناوين الصحفية بالإنجليزية تقاس بالـ «سي سي» أي بعدد الحروف، مع اعتبار المسافة بين كل كلمة وأخرى حرفا وكان العمل الصحفي اليومي في الثمانينيات صعبا وشاقا من الناحية الجسمية، فالصحفي يكتب الخبر أو التقرير أو المقابلة أو التحقيق بخط اليد، وما يكتبه يخضع للمراجعة من قبل شخص -عادة عجوز- متمكن من اللغة «المصحح»، ثم يرسله إلى قسم الطباعة، حيث الجماعة ذوو المهارات في استخدام الآلات الكاتبة، ولا بد ثانية من مراجعة كل مادة مطبوعة وبعد التأكد من صحتها، يتسلم المادة فنيون يستخدمون المقصات للصقها على ما يسمى الماكيت، حسب المساحة المخصصة لكل واحدة منها، وكان معنا في تلك الصحيفة الإنجليزية في قسم التصميم والإخراج شخص لا يعرف من الإنجليزية سوى بليز وسانك (ثانك) يو، ويا ما قطع خبرا و«جاب خبره»، عندما يكتشف أنه أطول من الحيز المخصص له، ولا نكتشف أن الخبر مبتور إلا في اليوم التالي، ولم يكن من جدوى من تحذيره من عدم تكرار البتر العشوائي، فقد كان يتعلل بـ«أنا عارف شغلي»، في حين أن حقيقة الأمر هي أن «شغله» كان المرحلة قبل إرسال الجريدة إلى المطبعة، أي في ساعة متأخرة جدا من الليل أو في ساعات الصباح الأولى، وبالتالي كان يقص ويبتر «عايز يخلص» ويهمه فقط الجانب الفني وليس المحتوى، وهو أصلا لا علم له بالمحتوى بسبب عدم إلمامه بالإنجليزية.
وكان جميع المحررين ما عدا واحد من الهنود وكان «الواحد» ذاك من بنغلاديش، ويعتقد كثيرون أن متعلمي شبه القارة الهندية يجيدون الإنجليزية بحكم أنها لغة التعليم في بلادهم، ولكن حقيقة الأمر هي أنهم يلحقون بهذه اللغة أذى بليغا، ليس لأن مستوى التعليم في بلادهم متدنٍ وتعبان، ولكن لأن الإنجليزية هي لغة التفاهم اليومي بين ناطقين بنحو 600 لغة محلية، ومن تجربتنا مع العاميات العربية نعرف كيف تستخدم هنا وهناك مفردات بمعان لا وجود لها في أي قاموس، فالمبسوط في العامية العراقية هو المضروب أو من تعرض للأذى، والعافية في تونس هي النار، والخشم في السودان هو الفم، والشاهد هو أن صحيفتنا تلك كانت تشهد معارك وملاسنات يومية كان طرفاها الهنود من جهة والمترجمون (وكانوا جميعا سودانيين) من جهة أخرى، حول استخدام المفردات والمصطلحات الإنجليزية، وبعبارة أخرى فقد كانت المعركة بين الإنجليزية الكلاسيكية والإنجليزية الهندية، وكان قرار الحسم بيد هندي عجوز اسمه سريني فاسان، موسوعي المعرفة يعمل مصححا، وكانت كلمته نهائية وصائبة في معظم الأحوال.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]