يا حليل زمن المداهمات الحميدة
أفتقدُ السودان كثيرا كلما دخل علينا العيد، فرغم الكثير من التشوهات التي خلخلت النسيج الاجتماعي في بلادي، فإن معظم أهله ما زالوا متراحمين، وقدر المستطاع متكافلين، ففي المهاجر التي عشت فيها أكثر من نصف سنوات عمري، يرن جرس الباب يوم العيد مرة كل ساعتين أو أربع ساعات فتستقبل ضيفا أو أكثر، مع أن جميع أو معظم معارفي المفترين في المهجر يملكون سيارات عجرمية، وحتى لو تزاوروا في العيد فإن ذلك يكون عصرا أو بعد غروب الشمس، بينما في السودان، عليك أن تترك باب بيتك مفتوحا منذ السادسة صباحا، لأن معظم المهنئين بالعيد لا يطلبون منك، ولا يطالبونك إذا ذهبت إلى بيوتهم إذنا بالدخول، وخاصة إذا كان البيت يسمح باستقبال النساء والرجال في قسمين مختلفين من البيت، ورغم أن معظم أهل السودان يقيمون في بيوت صغيرة لا تقبل القسمة على اثنين، فمن المعتاد جدا أن يقتحم البيت يوم العيد رجال ونساء من دون قرع الباب أو الجرس، بل ترفع رأسك فجأة وتجد نفرا يصيحون: يا جماعة كل سنة وأنتم طيبون، ومعظم من يعايدونك قد لا يمكثون عندك أكثر من دقيقتين، لأن عليهم المرور بعشرات البيوت ولابد أن تبدأ المعايدة بزيارة البيوت التي رحل عنها عزيز قبل العيد بفترة قصيرة.
أفتقدُ العشوائية والسبهللية في الزيارات العيدية لأنها دليل صفاء نية، فالتعبير عن الود الصادق لا يحتاج إلى بروتوكولات ولوائح، والسودانيون أصلا إما رعاة وإما مزارعون وإما من أصول تعود إلى المهنتين، والراعي لا يعرف لـ«الحوش» حدودا، والمزارع مثله يمارس عمله في فضاء مفتوح، وحتى لو كانت الأرض التي تخصه محدودة المساحة، فإنها تكون مفتوحة على أراضي الغير، وأهل الأرياف والبوادي عندنا يتناولون جميع وجباتهم جماعيا، وكل واحد منهم يأتي بما عنده من طعام ويجلسون في حلقات كبيرة ليأكلوا سويا، والطعام الذي تكثر فيه الأيدي «مبروك» لذا تجد نفسك تأكل بشهية وحماس عندما تتناول وجبة مع عدد كبير من الأقارب أو الأصدقاء الحقيقيين، ثم انظر حالك في وليمة زواج وسط مئات من الناس، ومهما كان الطعام المقدم شهيا فإنك تتناوله وأنت غير مرتاح، أي تأكل بغير «حماس» أو تكون مثلي ولا تأكل منه شيئا. إلى عهد قريب كانت القاعدة في البيوت السودانية ترك باب الحوش مفتوحا طوال النهار والساعات الأولى من الليل، وحتى في المدن الكبيرة التي تفشت فيها جرائم السطو المنزلي، فإن أبوابا كثيرة تبقى مفتوحة نهارا، أو يكون هناك سلك أو خيط في بارز ناحية الشارع في الباب الخارجي بحيث يستطيع الزائر شدّه وسحبه لفتح الباب، ذلك لأن السودان يتقدم بطريقة معكوسة، ففي دول العالم الأخرى «تتمدن» القرى، وعندنا تريَّفت المدن، أي أصبحت ريفية وبالتالي صار كثير من سكانها يمارسون سياسة الباب المفتوح حتى لا يعود زائر أدراجه لأن أهل البيت لم يسمعوا طرقه على الباب (الجرس ترف لا تجده إلا في بعض البيوت الشبعانة أو التي تتظاهر بالشبع)، ووجدت نفسي أعيش في السنوات الأخيرة في حي يوصف بالرقي، ومنذ انتقالي إليه صرت أحس بأني مقطوع من شجرة.. لا جيران يتزاورون بانتظام ولا صبية يلعبون في الشارع ولا ديك يصيح فجرا أو ليلا، ولا معزة جيران يداهمها الطلق، ولا جارة تقف في الحائط المشترك لتطلب ملحا أو تقدم طبقا من الأكل.
ولهذا ظللت من معارضي فكرة السودان الجديد الذي تنادي به بعض فصائل المعارضة لأنني أريد عودة / استرداد السودان القديم.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]