الولاء والبراء «وتجارة الرقيق» عند «داعش» و«بوكو حرام»
بعد قيام تنظيم داعش بقتل متطوع الإغاثة البريطاني ألان هينينغ عشية يوم عرفة، عرضت في نفس الفيديو متطوعاً آخر أمريكي الجنسية يسمى بيتر كاسيغ، وتوعدت بقتله أيضاً. ولأن كل نفس تسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلت، ويعاقب قاتلها كما لو كان قتل كل البشر، فإن إجابة هينينغ (وبيتر لو قتل كذلك جوراً) ستكون أن ذنبهما كان أنهما خفا لمساعدة المشردين من أهل سوريا والعراق، وتقديم العون لهم بعد أن تخلى عنهم العالم، بمن في ذلك داعش التي ساهمت في الواقع ولا تزال- في تشريد الأبرياء، وكفى به إثماً مبيناً.
ولكن هناك مفارقة أخرى في هذه القضية، وهي أن السيد كاسيغ كان قد أعلن إسلامه بعد أن وقع في أسر داعش، وأصبح بحسب من رافقوه في الأسر يؤدي الصلوات الخمس في موعدها، وتسمى باسم عبدالرحمن. ويقول من عرفوا «عبدالرحمن» أنه كان حتى قبل ذلك يصوم رمضان. وهذا يطرح سؤالاً محورياً على داعش وجندها.
ذلك أن ذنب عبدالرحمن وبقية ضحايا داعش عندها هو جنسيتهم الغربية، حيث أن المقصود بقتلهم هو ابتزاز الغرب حتى يوقف قصف مواقع التنظيم. ويقوم هذا التوجه على افتراض أن المجتمعات الغربية تنصر أبناءها وتخف لنجدتهم، بخلاف الدول الإسلامية التي تسلم مواطنيها ولا تحفل بهم. وعليه تتوقع داعش أن تلين دول الغرب وتتراجع من أجل إنقاذ فرد واحد، لأن مجتمعاتها، مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهم رحماء بينهم أشداء على عدوهم، بخلاف من يسمون أنفسهم مسلمين.
ولكن بما أن عبدالرحمن أعلن إسلامه، وشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه من المفترض أن تؤول ولايته إلى أمة المسلمين. وبما أن أمه المسلمين قد نهضت بحمد الله، وأصبح هناك خليفة وإمام يتولى قيادتها، فإن الخليفة هو المسؤول عن عبدالرحمن وسلامته. ولو أن جنداً أمريكيين خطفوه، لوجب على أمير المؤمنين أن يجند البعوث لإنقاذه. فالولاء الديني عند أهل العلم مقدم على كل ولاء آخر، وهو يعلو ولا يعلى عليه. وبمجرد نطقه بالشهادتين، خرج عبدالرحمن من ولاية أوباما وأصبحت ولايته عند أمة الإسلام. ولو أن داعش قتلته بأي حجة اليوم، لوجب على كل مسلم الجهاد ثأراً له، لأنه مسلم هاجر إلى بلاد المسلمين واستظل بظل الخلافة. بل إن أسره بعد إسلامه جريمة لا تغتفر، ويجب على كل مسلم السعي لاستنقاذه من الأسر، ولو بالقوة. ومن واجب كل من يؤمن بالله واليوم الآخر من أعضاء داعش (إن كان يوجد فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر)، أن يخف اليوم قبل الغد لاستنقاذ عبدالرحمن من الأسر بأي وسيلة كانت.
يكثر الجهاديون، وهم اليوم قبيلة، ولاؤهم لأحزابهم وسادتهم وكبرائهم الذين أضلوهم السبيل أكثر من ولائهم لأمة الإسلام وشرع الله، من الحديث عن «الولاء والبراء»، ويرونها من لب العقيدة. وبحسب هذه الدعوى فإن من صلب الإيمان إعلان الولاء لصف المسلمين والتبرؤ من معسكر الكفر. وليس هناك شك في أن من صحة إيمان المرء أن يكون في صف أهل الإيمان وألا يوالي من يعادي المؤمنين في دينهم. ولكن هناك إساءة تفسير لهذا المبدأ، لأن التبرؤ هو ممن عادى المسلمين في دينهم، وليس لسبب آخر. ففي صحيح التنزيل: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». وقد انتصر الله تعالى من فوق سبع سماوات ليهودي اتهم زوراً بسرقة، ووجه الإدانة لمن ظلمه، وعاتب رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه مال لحجة المسلم المفترض.
فالبراءة إنما تكون من أهل الظلم وأهل الحيف، وليس لمجرد الخلاف من الدين. فهل برىء النبي والمؤمنون من نجاشي الحبشة الذي آوى المؤمنين الفارين بدينهم؟ وهل من القسط والإحسان الذي أمر به الله تعالى أن يكافأ من ترك أهله ووطنه وجاء لنجدة المسلمين المظلومين، وبذل ماله ووقته لمعونتهم، بالأسر ثم القتل لا لذنب جناه؟
وقد زادت هذه الفئة الباغية في الإساءة إلى الإسلام سفراً آخر، حين مارست خطف النساء والأطفال وبيعهم في سوق الرقيق، كما جاء في تقرير نشرته الأمم المتحدة الأسبوع الماضي. وبحسب هذا التقرير فإن المنظمة أقامت ما يشبه السوق لبيع الفتيات المخطوفات للراغبين من الشباب في الموصل، وذلك كوسيلة إغراء لجذبهم إلى صفوف الحركة. وكان المدعو أبوبكر شيكاو، زعيم حركة بوكو حرام، وهي داعش نيجيريا، قد أعلن بعد خطفه قرابة ثلاثمئة من تلميذات مدرسة ثانوية في شمال نيجيريا في أبريل الماضي أنه سيبيع الفتيات المخطوفات في «السوق».
وبحسب علمنا فإنه لا يوجد «سوق» في نيجيريا ولا غيرها لبيع الرقيق، وإن وجد «سوق» بهذا المعنى فإن المشترين لن يكونوا بالضرورة من أهل ملة الإسلام، ففي الأسواق، القول الفصل هو للمال والأسعار دون غيرها. وهذا يعني أن شيكاو لن يمانع في بيع الفتيات المسلمات لغير المسلم وقبض الثمن لقاء ذلك!
إننا في حقيقة الأمر في حيرة من أمر هؤلاء القوم. فهم يزعمون أنهم يحيون الإسلام بعد اندثار، ولكنهم لا يحيون من الدين في زعمهم إلا القتل والذبح والاسترقاق وتشريد الخلق. وحسب ما علمنا فإن الإسلام جاء لإخراج الناس من استعباد الخلق إلى عبادة الواحد الاحد، وليس لاستعبادهم، وإحياء الرق! وقد عاقب عمر بن الخطاب عمراً ابن العاص وابنه لأنه «استعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، وهو يدافع في وقتها عن قبطي غير مسلم. فهل يا ترى لو كان السلف الصالح من المسلمين هجموا على بلاد العالم هجوم المغول والتتار كما تفعل هذه الفئات الضالة، هل كان يبقى من الإسلام اليوم شيء؟ وهل كان أحد سيقبل دين الله مهما كان منزلاً من السماء، لو كان أتباعه يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، بل يأمرون بالفحشاء والمنكر ويأتونهما؟
لقد صدق هؤلاء بفعلهم مزاعم المستشرقين وبابا الفاتيكان السابق الذي قال إن الإسلام لم يأت إلا بالقتل والذبح والخراب، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وبريء الله ورسوله من فعالهم!
ولعل المفارقة الأكبر هي أن داعش نيجيريا المسماة بوكو حرام ترفض كل ما يتعلق بالحداثة، وتكفر من يدخل المدارس لتلقي العلم. ولكن القوم يختالون في الميادين وهم يحملون بنادق وأدوات تفجير صنعها الكفار، ويستخدمون سيارات لم تصنع في مكة، ويستخدم زعيمهم أحدث آلات التصوير اليابانية، وآخر صرعات الهواتف الذكية من كورية وأمريكية وغيرها في إرسال رسائل الإفك عبر «الانترنيت»، وهو قمة الحداثة «الكفرية»! فيا له من تناقض ونفاق! يقتل الأطفال لأنهم دخلوا المدارس لتعلم العلم النافع، ومع ذلك لا يترفع القتلة عن استخدام كافة وسائل الحداثة (وتعلم ذلك) في الإثم والعدوان، بينما يحرمونها لمن يريد استخدامها للبر والتقوى. فأي إجرام هذا ياترى؟
إن البراءة واجبة فعلاً على كل مؤمن ومؤمنة من هذه الفئات ومن ضلالها وإثمها ومن والاها ومن نصرها، لأنها أشد من يصد عن سبيل الله هذه الأيام، وأكثر الناس افتراءً على الله ورسوله.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]